تسارعت الأخبار وردود الأفعال بعدما أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية "فاتو بنسودا" عن قرارها بفتح تحقيق شامل بخصوص جرائم حرب ارتكبت على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك بعد 4 سنوات من إعلانها بدء الدراسة الأولية حول الحالة في فلسطين والتي كانت في 16 يناير/ كانون الثاني 2015.
وتقوم المدعية العامة بإجراء الدراسة الأولية للحالة بعد أن يكون بحوزتها معلومات ومذكرات مقدمة من الأشخاص محل الادعاء تثبت وقوع جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، وهو واقع الحال بالنسبة لفلسطين، حيث تقدم العديد من الفلسطينيين بما يزيد عن 125 مراسلة تتضمن معلومات تثبت وقوع جرائم حرب إسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، والتي استناداً لها قالت بنسودا "لدي قناعة بأن هناك أساساً معقولاً للمضي قدماً في التحقيق بشأن الوضع في فلسطين"، فضلاً عن قيام السلطة الفلسطينية في 22 مايو/آيار 2018 بإحالة ملف جرائم الحرب الإسرائيلية إلى المحكمة الجنائية الدولية لإجراء تحقيق في جميع الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية.
بموجب هذه الإحالة تستطيع المحكمة فتح التحقيقات دون الحاجة إلى إذن من الدائرة التمهيدية، نظراً لأن السلطة الفلسطينية تقدمت بطلب الإحالة باعتبار فلسطين "دولة غير عضو" في الأمم المتحدة، وباعتبارها عضواً في المحكمة الجنائية الدولية منذ الأول من إبريل/نيسان 2015، استناداً إلى الفقرة (أ) من المادة (13) من ميثاق روما الأساسي فيما يتعلق بشرطي العضوية والإحالة.
وهو ما أقرته المدعية العامة بالفعل، غير أنها أرجأت فتح التحقيقات إلى حين الفصل في مسألة الولاية الإقليمية على الأراضي الفلسطينية، حيث أحالت الفصل في هذه المسألة إلى قضاة الدائرة التمهيدية استناداً إلى الفقرة (3) من المادة (19) من الميثاق، للتأكيد على أن للمحكمة صلاحية ممارسة اختصاصها على الأراضي الفلسطينية المحتلة والمقصود بها هنا قطاع غزة، الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وبالنظر إلى هذه النقطة فإنني أتساءل لماذا تريد المدعية العامة فصلاً في مسألة الولاية الإقليمية على الأراضي الفلسطينية وبالتالي تأخير مباشرة التحقيقات إلى حين الفصل في هذه المسألة من قضاة الدائرة التمهيدية والذي قد يستغرق وقتاً طويلاً للبت فيه قد يصل إلى 6 شهور في حده الأقصى، بل قدد تتجاوز هذه المدة، خاصةً أننا لم نسمع عن إنجازات الدائرة التمهيدية بشأن نظرها للقضايا خلال المدة المحددة، الأمر الذي يشكك حول إمكانية فصل الدائرة في القضية خلال المدة المسموحة.
ألم يكن من الأجدر للمدعية العامة أن تستند في مسألة الولاية الإقليمية إلى وضع فلسطين كدولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة اعترفت بها 138 دولة من أصل 188 دولة صوتت على القرار؟ وهو ما يعني أن لفلسطين السلطة والاختصاص والتي بموجبهما يمكن للمحكمة ممارسة ولايتها الإقليمية عليها.
يثور تساؤل آخر، ما هو سبب تأخر مكتب المدعي العام في معالجة مسألة الولاية القضائية الإقليمية؟ خاصةً أن هذه المسألة تعد الخطوة الأولى في الفحوص الأولية عند دراسة الحالة، كما أنها أثيرت عاماً تلو الآخر في الأنشطة التمهيدية لمكتب المدعي العام منذ عام 2015. أي بمعنى أدق لماذا يطلب مكتب المدعي العام دراسة مسألة الولاية القضائية الإقليمية الآن بعد 4 سنوات؟ لا سيما أنه أعلن في عام 2018 أن الفحص الأولي قد وصل إلى مراحل متقدمة في تقييم المعايير القانونية للحالة، وهو ما يفهم منه على الأقل أنه تناول مسألة الولاية القضائية الإقليمية على الأراضي الفلسطينية.
أيضاً فيما يتعلق بمسألة الأراضي الفلسطينية، فمن الثابت تماماً أن الأراضي المحتلة هي الأراضي الواقعة على حدود الرابع من حزيران لعام 1967، وهي التي دعا بموجبها مجلس الأمن في قراره رقم 2334 (2016) إسرائيل بوقف الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وأكد على أن أي إنشاء للمستوطنات في هذه الأراضي يعد خرقاً لأحكام القانون الدولي باعتبارها أراضٍ محتلة، كما حث الدول على ضرورة التمييز في تعاملاتها بين الأراضي الإسرائيلية والأراضي المحتلة على حدود الـ 67.
ويؤيد هذا الموقف كذلك الفتوى الاستشارية لمحكمة العدل الدولية المتعلقة بقضية الجدار والصادرة بتاريخ 9/7/2004، والتي ذهبت إلى القول بأن المستوطنات الإسرائيلية تعد انتهاكاً صارخاً لأحكام القانون الدولي لكونها تقام في الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967.
من جانبٍ آخر، هل أغفل مكتب المدعي العام أن الأراضي المحتلة تحتفظ بسيادتها كاملة؟ وهو ما يعني أن السكان المحتلون يحتفظون بحقهم في السيادة الدائمة، وأن المحتل في حالة الاحتلال لا يمارس إلا حقوق الإدارة على الإقليم ولا يتمتع إطلاقاً بحقوق السيادة، وأن القول بخلاف ذلك يعني مخالفة القواعد الآمرة للقانون الدولي، والتي تحظر تماماً الاستيلاء على الأراضي وضمّها بالقوة.
من ذلك كله يتضح أن إحالة المدعية العامة مسألة الفصل في الولاية القضائية الإقليمية للدائرة التمهيدية، ما هو إلا إهداراً للوقت ولمباشرة التحقيقات، التي إن تحققت في المستقبل القريب سوف يضفي على المحكمة نوعاً من المصداقية الغائبة منذ سنوات، شريطة أن تتمتع المحكمة بالاستقلالية والنزاهة وأن تتجاهل جميع الضغوط التي قد تؤثر في مستقبل هذه القضية.