يعيش العالم أخيرًا حالة من الإرباك والذهول بسبب جائحة فيروس كورونا (Covid-19)، وتتخذ الحكومات إجراءات عديدة لمكافحة الفيروس والحدّ من انتشاره. وتنوّعت هذه الإجراءات بين إعلان حالة الطوارئ والتعبئة العامة وحظر التجول الجزئي أو الكلي، مع الإجماع على وجوب التزام الجميع منازلهم أو ما بات يعرف بـ "الحجر المنزلي".

أمام هذا الواقع المستجد، برزت إشكالية حماية حقوق الإنسان المكرّسة في القوانين والمواثيق الوطنية والدولية، فهل يجوز تعطيل هذه الحقوق أو البعض منها بحجة أن الظروف استثنائية وأنّ المصلحة العليا تسـمو فوق جميع الحقوق ويقتضـي تحقيقها؟ أم أنه يجب حمايـة حقوق الإنسـان في كل زمـان ومكان وفي جميع الحالات عادية كانت أم استثنائية؟

كما هو معلوم، فإنّ معظم الدول التي طالتها جائحة كورونا تبنّت تدابير وإجراءات متشابهة إلى حدّ ما، وتتمحور جميعها حول إعلان حالة الطوارئ وحظر التجول والالتزام بالحجـر المنزلـي لمكافحـة هذا الوبـاء والحدّ من انتشاره قدر الإمكان. هذه الإجراءات بطبيعتها كان لا بد من أن تؤثّر بشكل مباشر على حقوق الإنسان، وأبرز هذه الحقوق المعرّضة للتعطيل والانتهاك في ظل حالة الطوارئ هي ثلاث حقوق أساسية: الحق في العمل، الحق في السكن والحق في الحصول على الرعاية الصحية.

فالمادة "23" من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تكفل لكل شخص الحق في العمل وفي حرية اختيار عمله وفي شروط عمل عادلة ومرضية وفي الحماية من البطالة، وينص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة "6" بند 1 منه على "الحق في العمل الذي يشمل ما لكل شخص من حق في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل"، كما تنص المادة (1/2) من اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 122 لسنة 1964 بشأن سياسة العمالة على واجب الدول الأطراف العمل على "توفير فرص عمل لجميع المحتاجين للعمل والباحثين عنه".

و قد تمّ الاعتراف بالحق في السكن في العديد من الوثائق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، فالمادة "25" من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تعترف بالحق في السكن كجزء من الحق في مستوى معيشة لائق أو كافٍ إذ جاء فيها: "لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، و يتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، لكنه ورد بشكل أساسي في المادة "11" بند 1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كجزء من الحق في مستوى معيشة كاف، ونصت على أنه: "تقرّ الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى..."، كما أن الحق في السكن يحظى بحماية العديد من المواثيق الأخرى نذكر منها على سبيل المثال لا الحصـر، العهد الدولـي الخاص بالحقوق المدنيـة والسياسية في المادة "17" منه، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري فـي المـادة "5" بنـد هـ، وأيضـًا فـي اتفاقيـة حقوق الأشـخـاص ذوي الإعاقـة فـي المادتيـن "9" و"28" منها.

كذلك الأمر بالنسبة للحق في الصحة، إذ يجب على الحكومات أن تهيّئ الظروف التي يمكن فيها لكل فرد أن يكون موفور الصحـة بقدر الإمكان و تتراوح هذه الظروف بين ضمـان توفير الخدمات الصحية وظروف العمل الصحية والمأمونة والإسكان الملائم والأطعمة المغذية، و قد تم التأكيد على الحق في الصحة في معاهدات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية وفي الدساتير الوطنية في جميع أنحاء العالم، فالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذكر في المادة "12" منه أنه لكل إنسان الحق بالتمتع بأعلى مستوى من الصحة ويجب تهيئة الظروف الملائمة لتأمين الخدمات والعنايـة الطبية للجميـع، وفي الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أنواع التمييز العنصري نصت المادة "5" بند هـ /4 على أنه يحظّر التمييز العنصري لأي سبب كان و يجب ضمان حق كل إنسان في التمتع بخدمات الصحة العامة والرعاية الطبية، أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقد كرّس في المادة "25" بند 1 منه على أنه لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية.

أما على صعيد الإجراءات المعمول بها في حالة الطوارئ، فكان أبرزها حظر التجول والالتزام بالحجر المنزلي، وبالتالي فهي تطال بالمقام الأول الحق في العمل. فمن جهة أولى، تؤدي هذه التدابير إلى عدم قدرة الفرد على الوصول إلى عمله وممارسته بشكل طبيعي لتأمين قوت عيشه وحاجياته الأساسية. ومن جهة أخرى، قد يتعرّض العامـل إلـى الصـرف التعسـفي غيـر المبـرر قانونـاً تحـت ذريعـة تعثّـر الأعمـال والضائقـة الماليـة والاقتصاديـة، وبالتالـي انتهـاك حـق أساسـي وحيوي من حقوق الإنسان، ألا وهو الحق في العمل، وما قد يتبع ذلك من انعكاسات خطيرة على الصعيدين الأمني والاجتماعي.

وعليه يتوجّب على الحكومات في هذه الحالة تأمين الاستقرار المعيشي والاجتماعي للفرد عبر التصدي بشكل حاسم لعمليات الصرف التعسفي واتخاذ التدابير اللازمة والملائمة لمنع حدوث أي من هذه العمليات العشوائية والاعتباطية تحت حجج واهية وغير حقيقية. فالصرف من العمل في جميع الدول يحكمه القانون لا سيما في حالات الظروف الاستثنائية كي لا يتمادى أرباب العمل في اتخاذ إجراءات مخالفة للقانون تحت جنح الوبـاء، وهنا يبرز دور الأجهزة الرقابية المختصة والقضاء للتصدي لهذه العمليات، كما عليها في الوقت عينه تقديم المساعدات اللازمة لتمكين الفرد من الالتزام بالحجر المنزلي المطلوب منه.

ومع تعثّر الأعمال في جميع المجالات، ومعاناة ذوي الدّخل المحدود بضائقة مالية كبيرة، وهم الذين يكابدون لتأمين حاجاتهم الأساسية في حدودها الدنيا من لقمة عيش ودواء، فهنا لا مجال بأي شكل من الأشكال لحرمان أي فرد من حقه بالسكن لمجرّد عجزه عن تسديد بدل سكنه بسبب الظروف الصعبة التي وُضع فيها دون إرادته.

وعلى الحكومات في ظل هذا الوضع أن تتخذ إجراءات ملائمة ومناسبة لحماية الحق في السكن عبر إصدار قوانين تعليق مهل الدفع أو تمديدها، وإعطاء فترات سماح للمتعثّرين لتسديد مستحقاتهم، وأي أمر غير ذلـك يشـكل انتهاكًا كبيـرًا وخطيـرًا لحـق أساسـي من حقوق الإنسـان كرّسـته جميـع المواثيق الدوليـة والوطنية.

وبما أنّ حالة الطوارئ والإجراءات المرافقة لها جاءت بسبب أزمة صحية نتيجة جائحة فيروس كورونا، فهنا لا بدّ من التشديد على الحكومات الالتزام أكثر من أي وقت آخر بتقديم الرعاية الصحية الملائمة للجميع دون أي تمييز على أساس عرقي أو ديني أو انتماء وطني أو غيره، فالحق بالحصول على الرعاية الصحية هو بالإضافة إلى أنه حق أساسي من حقوق الإنسان المكفول في جميع المواثيق الدولية والوطنية، فهو أيضًا يجب أن يكون التزامًا أخلاقيًا بالدرجة الأولى لأن الحماية يجب أن تطال الجميع.

فالمبدأ العام هو عدم جواز انتهاك أي حق من حقوق الإنسان، ويجب ضمان مبدأ الشـرعية القانونيـة وحكم القانون في جميع الظروف بما في ذلك حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية التي تزداد فيها المسؤولية الملقاة على الجسم القانوني من قضاة ومحامين، عبر بذل مجهودات إضافية واسـتثنائية في الدفاع عن حقوق وحريات الفرد في المجتمع، وكبح جماح الحكومات من التمادي في إجراءاتها واستغلال الظروف الاستثنائية لتحقيق غايات خارجة عن غرضها.

وفي الختام لا بد من التّنويه أنه لم يذكر التاريخ أن تسبّب الإفراط في العدالة واحترام حقوق الإنسان وحرياته إلى أي ضرر للأمن والسلام على الصعيدين الدولي والوطني.

وهنا تأتي الإجابة على الإشكالية المطروحة في البداية، أنه يجب على ممارسات وإجراءات الحكومات في ظل حالة الطوارئ أن تؤدي غرضها الوحيد وهو حماية المجتمعات وتمكين الدولة من العودة في أسرع وقت ممكن إلى الأوضاع الطبيعية، أي استعادة الانتظام في الحياة العامة والنظام الدستوري والقانوني الذي يمكن فيه ضمان جميع الحقوق دون اللجوء إلى ممارسات شاذّة تحيد عن هدفها الرئيسي.