لا شك أنّ أحد عوامل النجاح المهمة لأي عمل أو مشروع أو قضية هو الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، وتطويعها لخدمة المشروع من خلال الاستفادة من الخصائص والمزايا التي توفرها تلك الموارد.

 

   اللافت حقًا أنّ أكبر موسوعة معلوماتية على الإنترنت تخلو تقريبًا من أيّ جهد حقوقي مركّز ومنظّم لاستغلالها في الدفاع عن حقوق الإنسان   

لنخصص الحديث قليلًا، ونسحب ذلك على النضال من أجل حقوق الإنسان، والذي يتركز على رصد وتوثيق الانتهاكات وفضحها، وممارسة أقصى درجات الضغط على منتهكي حقوق الإنسان بشتى الوسائل حتى يوقفوا انتهاكاتهم، أو على الأقل يدركوا حقيقة أنّ هناك من يوثق الفظائع التي يقترفونها، وسيكون هذا التوثيق يومًا ما مرجعًا لمحاسبتهم ومساءلتهم عن جرائمهم التي ظنوا أنّها ستسقط بالتقادم.

في سبيل ذلك، ينشط المدافعون عن حقوق الإنسان في استخدام منصات كثيرة عبر الفضاء الإلكتروني لاستعراض آخر الانتهاكات، وبيان جهودهم في فضحها ومحاربتها. لكنّ اللافت حقًا أنّ أكبر موسوعة معلوماتية على الإنترنت تخلو تقريبًا من أيّ جهد حقوقي مركّز ومنظّم لاستغلالها في الدفاع عن حقوق الإنسان.

لماذا ويكيبيديا؟

تمثّل موسوعة "ويكيبيديا" أضخم رصيد معلوماتي كتبه البشر على الإنترنت بواقع أكثر من 54 مليون و600 ألف مقالة حتى الآن، مكتوبة بـ 310 لغات، 61 منها تحتوي على أكثر من 100 ألف مقالة. أمّا على صعيد الزيارات اليومية، فتحتل "ويكيبيديا" المرتبة الخامسة عالميًا في عدد الزيارات، إذ إنّ حوالي 15% من مستخدمي الإنترنت يتصفحونها بشكل يومي. هذه الأرقام ينبغي أن تدفع المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الإنسان لالتقاط فرصة وصول إنتاجاتها البحثية ومواقفها لأطياف واسعة من جمهور المهتمين من خلال "ويكيبيديا".

لا تُعتمد "ويكيبيديا" كمصدر في البحوث العلمية الرسمية لأنها مفتوحة للتعديل للجميع، وبالتالي قد لا تكون المعلومات دقيقة، إلا أنّها تُعدّ مرجعًا رئيسيًا ومصدرًا أساسيًا للباحثين والأكاديميين لرسم مسارات أبحاثهم لعدة عوامل أهمها أنّها مجانية، ويسهل استخدامها، حيث يستخرج الباحث المعلومة أو يضيفها بين ملايين المقالات خلال ثوانٍ معدودة.

تتيح الموسوعة كذلك الفرصة للإلمام بالموضوع محط الاهتمام من مصادر متنوعة ومتعددة، ما يزيد من موثوقية الموضوع، ويشكّل مدخلًا لمعرفة طيف واسع من المصادر المختلفة التي تتحدث عن الموضوع.

 ولضبط عملية التعديل في الموسوعة، فإنّ من شروط المقالة السليمة تدعيم معلوماتها بالمصادر الموثوقة الصحيحة، لتمكين القرّاء من الرجوع إلى مصادر المعلومات، والتأكّد من صحّتها. كما أنّ لدى المحررين المناط بهم مراجعة المقالات صلاحيات لحذف أو تعديل أي مقالة بناء على مدى موثوقيتها ودقّة المصادر فيها.

من أهم العوامل كذلك التي تشجع على توثيق الانتهاكات عبر "ويكيبيديا" أنّها مفتوحة للتعديل، ومعنى ذلك أنّها تكسر احتكار رواية الطرف الواحد، وتُبقي المجال مفتوحًا لروايات أخرى مغايرة مدعّمة بالحقائق المثبتة، وهذا ما يتيح المجال للضحايا أنفسهم لتوثيق الانتهاكات التي تعرّضوا لها.

كيف يمكن تدعيم ويكيبيديا حقوقيًا؟

"ويكيبيديا" موسوعة شاملة لجميع المواضيع، وبالتالي فإنّ مقالاتها توثّق معظم الأحداث السابقة أو الحالية التي اشتملت على انتهاكات لحقوق الإنسان، كالحرب في العراق، وسوريا، واليمن، والانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وأزمة اللجوء والهجرة، وحوادث غرق طالبي اللجوء والمهاجرين، وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره. وبالنظر إلى كمية الزيارات الهائلة التي تستقبلها الموسوعة يوميًا، فإنّه من واجبنا كمدافعين عن حقوق الإنسان، أن نستثمر ذلك في توثيق الانتهاكات التي تترافق مع ما يحدث من وقائع حولنا داخل مقالات الموسوعة.

لنأخذ مثالًا بسيطًا: نفترض أنّ التحالف الدولي شنّ غارة على مدينة ما في العراق وقتل خلالها عددًا من المدنيين. كيف يمكننا التفاعل مع هذا الخبر على ويكيبيديا وتوثيقه بما يخدم الضحايا؟

نبحث عن الخبر من مصدر موثوق، ونعيد صياغته مع ضرورة تضمين العناصر الأساسية لأي توثيق، كالزمان والمكان، وأسماء الضحايا، والجهة الفاعلة. بعد ذلك نبحث عن مقالة في ويكيبيديا عن التحالف الدولي في العراق، ونضيف تلك المعلومات تحت بند مثلًا: انتهاكات التحالف ضد المدنيين، ونضع مصدر المعلومات. هذا الفعل على بساطته يُعدّ توثيقًا مهمًا، لأنّ مقالات الموسوعة تحظى بعدد زيارات مرتفع، إذ تتصدر في الغالب نتائج البحث على محرك "جوجل"، وبالتالي احتمالية الاطلاع على التوثيق تكون مرتفعة.

مبادرة واعدة

في عام 2017، أطلق المكتب الإقليمي للمرصد الأورومتوسطي في الأراضي الفلسطينية مشروع "ويكي رايتس"، والذي هدف بشكل أساسي إلى إشراك الضحايا في عملية الدفاع عن حقوقهم، من خلال تدريبهم على استخدام الموسوعة وتعديل مقالاتها وإثرائها بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، ونجح المشروع في تدريب مجموعة من الشباب الواعد من خرّيجي الجامعات، والمهتمين بالدفاع عن حقوق الإنسان، ليكتسبوا خبرة التعامل مع الموسوعة، ويساهموا في تدعيمها برواية ضحايا حقوق الإنسان الغائبة.

تبع ذلك مبادرات عدّة ولكنّ جميعها للأسف، لم يرق حتى الآن إلى تشكيل جسم تنسيقي للعمل بشكل جماعي لخدمة قضايا حقوق الإنسان، وتوثيق رواية الضحايا، وخاصة في المنطقة العربية التي تشهد انتهاكات متنامية ولا محدودة.

وحتى لا يحدث لبس أو خلط، فإنّ الحديث هنا عن جهد جماعي لإثراء المحتوى بمحتويات حقيقية مدعومة بمصادر موثوقة لتوثيق وقائع وحفظها من الاندثار، وليس لتوجيه مقالات "ويكيبيديا" باتجاهات معينة تخدم أطرافًا بعينها، فويكيبيديا تحظر التعديلات الجماعية الموجّهة لتغيير اتجاه مقالة ما وقلب محتوياتها، وتعد ذلك عملًا تخريبيًا.

مما تقدّم، يُمكننا أن نلمس جدوى الانتقال إلى ساحة "ويكيبيديا" لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان باعتبارها كنزًا مهجورًا ينتظر جهودنا جميعًا لاستخراجه والاستفادة من مزاياه الكبيرة، فحاجتنا ملّحة في ظل تصاعد الانتهاكات من حولنا إلى توثيقها وفضح مرتكبيها على نطاق واسع لتصل لأكبر شريحة ممكنة من الأفراد على اختلاف اهتماماتهم، ويساهم هذا أيضًا في تعزيز ونشر ثقافة حقوق الإنسان في المجتمعات.

هذه دعوة مفتوحة لإطلاق مبادرة لتوثيق رواية الضحايا في موسوعة "ويكيبيديا" وإسماع صوتهم المغيّب لمئات الآلاف من زائري الموسوعة، وحفظ ما حدث معهم وما تعرّضوا له، في أوسع فضاء معلوماتي على شبكة الإنترنت.