سقطت حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في التسعينيات من القرن الماضي بعد عقودٍ من العقوبات التي فرضت على حكومتها والتنديدات الدولية ضد ممارساتها. على الجانب الآخر اليوم، ما تزال الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تُكافأ بشكل متكرر تجاريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا، في ظل ترحيب دولي بمسؤوليها في كل مكان، رغم تاريخها الطويل من جرائم الحرب وانتهاكات القانون الدولي على مدار أكثر من 72 عامًا. وصحيح أنه تم تمرير قوانين تدين سلوكها، لكن اتخاذ خطوات جادة وعملية هو ما سيجلب التغيير الحقيقي. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحب تنفيذ تلك التنديدات والعقوبات بشكلٍ منظم وعادل وإنساني.

 

التطبيع بدلًا من العقوبات

وقعت كل من دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين اتفاق تطبيع مع إسرائيل في سبتمبر 2020، لتتبعهما في ذلك السودان في أكتوبر.

وفي احتفاءٍ دوليٍ واسع، وقع الاتفاق كل من وزير الخارجية الإماراتي "عبدالله بن زايد آل نهيان" ووزير الخارجية البحريني "خالد آل خليفة"، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"، الأمر الذي يعد مدعاة للسخرية؛ كون الأخير مدرج ضمن قائمة سرية جمعها مسؤولو الحكومة الإسرائيلية وتضم أشخاصًا من المحتمل أن يجري اعتقالهم بالخارج في حال قامت المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم الحرب المزعومة في الأراضي الفلسطينية، حيث أن "نتنياهو" قاد حرب 2014 على غزة، التي وجدت لجنة أممية أنها انتهاكات جسيمة وجرائم حرب محتملة ارتُكبت خلالها.

الإمارات ذهب أبعد من ذلك بدعمها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. ففي أكتوبر، أعلنت شركة تمويل التنمية الدولية الأمريكية أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والإمارات سينشؤون صندوقًا "لتطوير الحواجز الإسرائيلية من أجل للفلسطينيين".

 

العقوبات في القانون الدولي

توظف الأمم المتحدة عادةً عدة أدوات بهدف صون أو استعادة السلم والأمن الدوليين، حيث يسمح الفصل السابع من ميثاقها بفرض عقوبات على الحكومات والكيانات التي ترتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وقد يشمل ذلك عقوبات تجارية وحظر سفر وحظر توريد الأسلحة وقيود على المعاملات المالية.

ومنذ عام 1966، فرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 30 عقوبة، على جنوب روديسيا (زيمبابوي حاليًا) وجنوب أفريقيا، ويوغوسلافيا السابقة (مرتين)، وهايتي، والعراق (مرتين)، وأنغولا، ورواندا، وسيراليون والصومال، وإريتريا، وإثيوبيا، وليبيريا (ثلاث مرات)، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وساحل العاج، والسودان، ولبنان، وكوريا الشمالية، وإيران، وليبيا (مرتين)، وغينيا بيساو، وجمهورية إفريقيا الوسطى، واليمن، وجنوب السودان، ومالي. بالإضافة إلى ذلك، تم فرض عقوبات على ثلاث جهات فاعلة غير حكومية: داعش والقاعدة وطالبان.

في نوفمبر 1977 على سبيل المثال، تبنى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع القرار 418، الذي فرض حظرًا على توريد الأسلحة إلى جنوب أفريقيا. نص القرار على أن تكف جميع الدول عن "أي تزويد لجنوب أفريقيا بالأسلحة والأعتدة ذات الصلة بجميع أنواعها، بما في ذلك بيع أو نقل الأسلحة والذخيرة والمركبات والمعدات العسكرية ومعدات الشرطة شبه العسكرية وقطع الغيار لما سبق ذكره.
 

ولم تقتصر العقوبات المفروضة على جنوب إفريقيا على حظر الأسلحة بل حث قرار الأمم المتحدة الدول على وقف العلاقات الثقافية والأكاديمية مع حكومة جنوب إفريقيا لممارسة مزيد من الضغط عليها؛ لإجبارها على الالتزام بالقانون الدولي. وفي عام 1985، اتخذ قرار آخر من الجمعية العامة (40/64) خطوة أخرى في ذات الاتجاه، حيث حث الدول على وقف جميع أشكال التعاون مع النظام العنصري في جنوب إفريقيا. وطالب المجلس جميع الحكومات بتبني تشريعات أو تدابير أخرى لضمان "مراعاة المقاطعات الرياضية والثقافية والأكاديمية والاستهلاكية والسياحية وغيرها في جنوب إفريقيا".

 

قضية العقوبات

من نواحٍ عديدة، يتماثل أساس الدعوة إلى العمل ضد جنوب إفريقيا مع ذلك المتعلق بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. فالحقائق على الأرض، إلى جانب تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، تُظهر أن الحكومة الإسرائيلية ارتكبت من جرائم الحرب وقتل المدنيين في فلسطين أكثر مما فعل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. مع ذلك، لم يتم اتخاذ أي إجراءات "حازمة" حقيقية ضد إسرائيل.

منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، ارتكبت الحكومات المتعاقبة فيها عشرات انتهاكات حقوق الإنسان التي ترقى إلى مستوى جرائم الحرب بموجب القانون الدولي.

مثالٍ حقيقيٍ وملموس إلى يومنا هذا هو طرد ما يقدر بنحو 750,000 فلسطيني من منازلهم خلال ما يسميه الفلسطينيون "النكبة"، وتحويلهم إلى لاجئين مشتتين في جميع أنحاء العالم. على مدى 72 عامًا الماضية، لم يكن هناك أي جهد لملاحقة الجناة، فيما يستمر عدد الضحايا من اللاجئين بالارتفاع ليصل عددهم اليوم إلى نحو 6 ملايين لاجئ.

 

القتل الجماعي

بعد انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، تم تشكيل لجنة "الحقيقة والمصالحة"، التي وجدت أن نحو 19,050 شخصًا قتلوا على يد نظام الفصل العنصري خلال فترة حكمه. في المقابل، هنا على الأقل 24,731 فلسطينيًا قتلتهم إسرائيل على مدى 35 عامًا (خلال النكبة وبين 1987-2020)، وهي مدة لا تتجاوز نصف مدة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لأكثر من 72 عامًا، حسب تقديرات "بتسيلم" ومنظمات دولية أخرى.

 

استهداف الأطفال

تخطو إسرائيل خطى نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في امتلاك سجلٍ حافل بالتغاضي عن الحماية الخاصة التي يمنحها القانون الدولي الإنساني للأطفال.

على سبيل المثال، خرج صباح يوم 16 يونيو 1967، آلاف من طلبة مدارس الثاونية السود في جنوب أفريقيا في شوارع "سويتو" احتجاجًا على اعتماد اللغة الأفريكانية لغة للتدريس، وسرعان ما لجأت الشرطة للقوة المفرطة لفض تلك الاحتجاجات مخلفةً 176 قتيلًا. 

على الفور، وبعد ثلاثة أيام فقط، اتخذ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراره رقم ،392 والذي يدين قمع الحكومة ضد السود، وينص على أنه "تُعد سياسة الفصل العنصري جريمة ضد ضمير وكرامة البشرية وتبدد السلام والأمن الدوليين."

في المقابل، ارتكبت إسرائيل منذ احتلالها لفلسطين عشرات المجازر بحق المدنيين والأطفال، وأقرب مثال هو مجزرة كفر قاسم، والتي ارتكبها الاحتلال في 29 أكتوبر من عام 1956، حيث صوبت شرطة الحدود الإسرائيلية رصاص رشاشاتها صوب الفلسطينيين لخرقهم حظر التجوال الذي لم يكن لديهم علم به، لتتسبب هذه المجزرة في مقتل ما لا يقل عن 48 فلسطينييًا من بينهم 23 طفلًا و6 نساء.

وبحسب المنظمة الدولية للدفاع عن الأطفال، قتل الجيش الإسرائيلي على الأقل 2,400 قاصر في المدة ما بين ديسمبر 1987 وأغسطس 2020، أي بمتوسط قتل طفل فلسطيني واحد كل ثلاثة أيام.

 

فض الاحتجاجات

في 21 مارس من عام 1960، فضت شرطة جنوب أفريقيا تظاهرة لما يقارب 7 آلاف شخص خرجوا احتجاجًا على نظام جوازات السفر الداخلي في البلاد والهادف لفصل السكان. واستخدمت الشرطة آنذاك نيران رشاشاتها في فض التظاهرة، مخلفةً 69 قتيلًا وما يقارب 180 إصابة، وأطلق عليها مجزرة "شاربفيل".

أثارت الحادثة إدانة دولية واسعة مصحوبة بفرض عقوبات. وفي عام 1979 وتحديدًا في الذكرى السنوية للمجزرة، نظمت الجمعية العامة للأمم المتحدة أسبوعًا من الأنشطة التضامنية ضد العنصرية.

في المقال، لم يُثر قتل السلطات الإسرائيلية 217 فلسطينيًا في "مسيرات العودة الكبرى" في قطاع غزة أي ردود دولية مماثلة، رغم كون الغالبية الساحقة من المشاركين في التظاهرات التي بدأت في مارس 2018 حتى عام 2019 من المدنيين العزل. وبحسب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، خلف قمع الاحتلال الإسرائيلي للمسيرات، 48 ضحية من القاصرين، وامرأتين، و9 أشخص من ذوي الإعاقة، و4 مسعفين وصحفيين اثنين، فيما أصيب 14,713 شخصًا، من بينهم 3,696 قاصرًا، و387 امرأة، و 253 مسعفًا، و 218 صحفيًا.

لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة والتي تأسست عام 2018 للتحقيق في الاحتجاجات على الأراضي الفلسطينية المحتلة، قالت إن هناك "أسبابًا وجيهة بأن الجنود الإسرائيليين ارتكبوا خلال مسيرة العودة الكبرى انتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وأن بعض هذه الانتهاكات يرقى لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية."

 

التعنت تجاه القانون الدولي

في الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 "عملية الجرف الصامد"، أكد أطباء ومنظمات حقوقية أن القوات الإسرائيلية استخدمت أسلحة غير تقليدية تتضمن القنابل المسمارية وأسلحة "دايم"، وهي متفجرات معدنية كثيفة.

ولتمهيد الطريق للتحقيق في جرائم الحرب المحتملة وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان التي من قدرت الأمم المتحدة أن الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية المسلحة ارتكبتها خلال الحرب، أنشأت لجنة تحقيق مستقلة.  لكن اللجنة لاقت رفضًا إسرائيليًأ دفع السلطات الإسرائيلية لعدم التعاون معها، بل وعرقلة عملها كذلك، بما في ذلك عمل المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلطسينية المحتلة منذ عام 1967، "مكارم ويبيسونو". حيث رفضت إسرائيل إعطاء الأخير حق الوصول للأراضي الفلطسينية، والذي كان سببًا في تقديم استقالته في يناير من عام 2016، ليعلق "ويبيسونو" قائلًا إنه "مع عدم وجود رد إسرائيلي لطلبي الأخير في أكتوبر 2015 لمنحي الحق في الوصول للأراضي الفلسطينية مع نهاية العام، فإنه يؤسفني وبشدة بأن المبدأ الذي على أساسه وافقت على تولي هذا التفويض، وهو الوصول المباشر للضحايا في الأراضي الفلسطينية لن يتحقق."

وعلى غرار "ويبيسونو"، منعت السلطات الإسرائيلية المقرر الخاص الجديد، "مايكل لينك"، والذي تم تعيينه في 2016 في أكتوبر 2019 من الوصول للأراضي الفلسطيني.

وفي الوقت الذي تمنع إسرائيل الخبراء الدوليين من مراقبة وتوثيق الانتهاكات التي تقوم بها على الأراضي الفلسطينية، تواصل إسرائيل سياسة التطهير العرقي ضد الآلاف من الفلطسينين في مدنهم وقراهم، بما في ذلك هدم منازلهم وإجبارهم قسرًا على المغادرة.

موّل الاتحاد الأوروبي بناء العديد من المباني في الأراضي الفلسطينية، لتقوم الحكومة الإسرائيلية بهدم عدد كبير منها. ففي عام 2019، وثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ومقره جنيف، تدمير ومصادرة 127 مبنىً مولهم مانحون دوليون، من بينهم الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، وهو ضعف عدد المنازل التي هدمتها إسرائيل في عام 2018، ما يعني أن السلطات الإسرائيلية ماضية في توسيع رقعة الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي دون التفات من المجتمع الدولي الذي كان له وقفة جادة حين تعلق الأمر بجنوب أفريقيا القرن الماضي.

والسؤال هو: إلى متى سيظل يُسمح للحكومة الإسرائيلية بالاستمرار بتجاوزاتها دون أي مساءلة دولية؟

 

هذا المقال نُشر للمرة الأولى باللغة الإنجليزية على موقع Open Democracy