في وقت سابق من هذا الشهر، ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن شركة التكنولوجيا العملاقة "مايكروسوفت" أطلقت قبل أكثر من عام ونصف مركزًا جديدًا لتطوير الرقائق الإلكترونية في إسرائيل بشكل سري، وتقوم حاليًا بتسريع عملياتها هناك.

تبع ذلك تقرير آخر يفيد أن شركة "جوجل" أيضًا تخطط لإنشاء مركز بيانات إقليمي لها في إسرائيل لخدمات الحوسبة السحابية الذي يمكن من خلاله أن تستثمر الشركة مئات الملايين من الدولارات في البنية التحتية المحلية، ولكن جوجل رفضت التعليق على تلك الأنباء، وتركتها محاطة بسرية تامة، تمامًا كمشاريع مايكروسوفت في إسرائيل.

 

   تكافئ مايكروسوفت وجوجل إسرائيل من خلال تعزيز هيمنتها التكنولوجية في المنطقة، ما يمنحها المزيد من القوة والنفوذ، متجاهلتان تاريخ إسرائيل كأكبر مركز للقرصنة وبرامج التجسس   

 

وفي حين أن مثل هذه الاستثمارات قد تكون بريئة أو غير مسيسة على السطح، فإن الافتقار الكامل للشفافية المحيطة بها ينم عن تجاهل المسؤولية الاجتماعية الأساسية للشركات والمبادئ الأخلاقية لأسباب متعددة.

تؤكد مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان أن الشركات تتحمل مسؤوليات حقوق الإنسان بموجب المعايير الدولية، وتُلزم الشركات في جميع أنحاء العالم بتوخي الحيطة الواجبة والتخفيف من أي تأثير ضار لأنشطتها، ولكن يبدو أن هذه المبادئ قد تم تجاهلها في حالة الاستثمار في إسرائيل.

بينما يُزعم أن مايكروسوفت تلتزم بحماية الحريات الديمقراطية وتتعهد علنًا بعدم المساعدة في التعدي على هذه الحريات، إلا أن اختيار الشركتان إسرائيل سرًا لاستثماراتهما، بقصد أو بغير قصد، يجعلهما تستثمران في تأجيج واستدامة وتلميع صورة الوضع الراهن المزعزع للاستقرار والقائم على الظلم والقمع والقهر.

وبطبيعة الحال، ستؤدي هذه الاستثمارات الكبيرة إلى زيادة عائدات الضرائب للحكومة الإسرائيلية، والتي تُستخدم لدعم المستوطنات الآخذة في التوسع واستمرار القهر العسكري الإسرائيلي للفلسطينيين.

علاوة على ذلك، فإن القيام بمثل هذه الاستثمارات السخية غير المشروطة يعزز وهمًا بكون الوضع طبيعي وهو ما يساعد إسرائيل على الحفاظ على احتلالها وتوسيع المستوطنات والقهر المنهجي ضد الفلسطينيين وإفقارهم وإساءة معاملتهم، ولكن، وعلى الرغم من هذا الواقع، تدل تلك الاستثمارات على أن إسرائيل ما تزال جذابة للشركات العملاقة العابرة للحدود.

ونتيجة لذلك، تشعر إسرائيل بمزيد من الجرأة لتصعيد وتسريع قمعها للفلسطينيين، بلا قيود أو خوف من أي عواقب.

هذه ليست المرة الأولى التي تغض فيها مايكروسوفت الطرف عن اضطهاد إسرائيل أو تحاول جني الأرباح منه. في عام 2019، تعرضت مايكروسوفت لانتقادات بسبب تمويلها شركة "أنيفيجين" (AnyVision) الإسرائيلية التي تقدم تقنيات التعرف على الوجه للجيش الإسرائيلي لمراقبة الفلسطينيين في الضفة الغربية.

وبالمثل، منحت الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة يوم الأربعاء الماضي عقدًا بقيمة 1.2 مليار دولار لشركتي "جوجل" و"أمازون" لبناء مركز بيانات سحابي إقليمي، فيما يسمى "مشروع نيمبوس".

وبموجب الصفقة، ستساهم الشركتان بشكل كبير في تعزيز البنية التحتية المستخدمة لقمع الفلسطينيين، بما في ذلك "الوحدة 8200" سيئة السمعة، وهي القسم العسكري الإسرائيلي الذي يعتمد على أحدث التقنيات للتجسس على الفلسطينيين من أجل ابتزازهم للتعاون معها ضد الفلسطينيين الآخرين.

إن الاستثمارات الكبيرة التي أعلنت عنها مؤخرًا جوجل ومايكروسوفت تساهم في تبييض صورة إسرائيل، وتعطيها المزيد من انتصارات العلاقات العامة لإضفاء الشرعية على الوضع الراهن من خلال تغذية الفكرة بأن إسرائيل تمثل منارة أمل لا مثيل لها في الشرق الأوسط وقوة حميدة. تلك الاستثمارات تغذي الرواية القائلة بأن إسرائيل كدولة ناشئة ناجحة تستحق الإعجاب والتقليد.

وبذلك أيضا تكافئ مايكروسوفت وجوجل إسرائيل بشكل أكبر من خلال تعزيز هيمنتها التكنولوجية في المنطقة، مما يمنحها المزيد من القوة والنفوذ، متجاهلتان تاريخ إسرائيل كأكبر مركز للقرصنة وبرامج التجسس التي تقرها الحكومة في المنطقة.

ويثير هذا أيضًا قلقًا خطيرًا بشأن ما إذا كانت جوجل ومايكروسوفت قد اتخذتا تدابير احترازية كافية لضمان عدم وصول إسرائيل - الدولة التي تجري عمليات مراقبة مكثفة تحت ذريعة الأمن القومي - المباشر إلى خوادمها لتنفيذ هجمات تجسسية أو عمليات مراقبة إلكترونية، ليس أقلها ضد الفلسطينيين.

تعطي المادة 19 من قانون حماية الخصوصية الإسرائيلي 5741-1981 استثناءً من المسؤولية الجنائية في حالة خرق البيانات ومصادرتها إذا كان الجاني هو الشرطة الإسرائيلية أو المخابرات العسكرية (أمان) أو الشاباك أو الموساد.

وهذا الأمر ليس جديدًا: ففي العام الماضي، افتتح موقع تويتر مقرًا إقليميًا في الإمارات العربية المتحدة، مما أثار غضب المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء والمثقفين الذين أشاروا إلى أن السلطات السعودية تمكنت من تحديد واعتقال وتعذيب أحد الشخصيات البارزة وهو المعارض السعودي تركي بن ​​عبد العزيز الجاسر، وزعموا أن السلطات السعودية استخدمت معلومات زودها بها مكتب تويتر في دبي.

إن مسار العمل المسؤول لعملاقي التكنولوجيا اللذان يتمتعون بموارد وتأثير هائلين، هو جعل استثماراتهما مشروطة بإظهار إسرائيل تقدمًا نحو الحفاظ على كرامة الفلسطينيين، وتنفيذ إصلاحات جوهرية فيما يتعلق بحقوقهم، ويجب على الشركتين الامتناع تمامًا عن القيام بمثل هذه الاستثمارات المثيرة للجدل بدون هذه الضمانات.

لدى مايكروسوفت وجوجل خيارات أخرى بارزة في المنطقة، مع إمكانات تقنية عالية وحاجة ماسة للاستثمارات التي يمكن أن تكون قوة ذات مغزى من أجل الخير والتغيير.

تونس، على سبيل المثال، يُشاد بها على نطاق واسع باعتبارها الديمقراطية الحقيقية الوحيدة في العالم العربي بعد الربيع العربي عام 2011، لكن تطورها الاقتصادي ظل راكدًا للأسف بالرغم من أنها تتمتع بنظام بيئي صاعد للشركات الناشئة، حيث احتلت المرتبة الثانية في إفريقيا في مؤشر ريادة الأعمال العالمي لعام 2019، كما أن لديها قوة عاملة متعلمة وشابة تتوق إلى فرص لإثبات مواهبهم.

إن نقل هذه الاستثمارات الكبرى إلى تونس يمكن أن يطلق العنان لإمكاناتها غير المستغلة ويمنح البلاد فرصة قوية للتطور وتصبح قصة نجاح في المنطقة، وهذا أيضًا من شأنه أن يؤكد ما تزعمه الشركتان من قيم من خلال الوفاء بمسؤوليتهما الاجتماعية لتكونا قوة إيجابية للتغيير بدلاً من أن تكونا أدوات بيد نظام قمعي.