"توقف عما تفعله واقرأ التالي.. هذا التسريب سيكون قصة العام"، هكذا كتب إدوارد سنودن، المخبر البارز لوكالة الأمن القومي الشهر الماضي، فقد حصلت منظمتا العفو الدولية وفوربيدين ستوريز على قائمة مسربة تضم (50.000) رقم هاتف لأهداف محتملة لشركة برامج التجسس الإسرائيلية "إن إس أو".
الخدمة الأساسية التي تقدمها "إن أس أو" هي "بيغاسوس"، وهو برنامج خبيث يخترق أجهزة آيفون وأندرويد ويمكّن مشغلي البرنامج من استخراج الرسائل والصور ورسائل البريد الإلكتروني وتسجيل المكالمات وتشغيل الميكروفونات سرًا.
تُعتبر إسرائيل مركزًا دوليًا لشركات برامج التجسس التي يأتي موظفوها الرئيسيون دائمًا من الجيش الإسرائيلي، وخاصةً "وحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية 8200.
محمد شحادة، مسؤول البرامج والاتصال في الأورومتوسطي
ويبدو أنّ النطاق الجغرافي لعملاء وضحايا الشركة غير محدود - من الشرق الأوسط إلى أوروبا والولايات المتحدة وأفريقيا وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية -، حيث وُجِدت آثار برمجيات "بيغاسوس" الخبيثة مؤخرًا على الهواتف في المملكة المتحدة وفرنسا، وذلك من بين 45 دولة أخرى انتشر الفيروس فيها.
كانت قائمة الأهداف المعتادة للشركة، والتي جرى الكشف عنها خلال السنوات القليلة الماضية، في الغالب عبر الصحفيين والنشطاء والمعارضين - وقد انتهى الأمر ببعضهم للتعذيب أو الاعتقال أو القتل أو الإخفاء القسري نتيجةً لذلك - تضم أشخاصًا من ذوي المناصب الرفيعة، إذ انتقلت الشركة من التجسس على الصحفيين إلى التجسس على الرؤساء ورؤساء الوزراء والعائلات المالكة والرؤساء التنفيذيين والشخصيات العامة، وأبرزهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وملك المغرب محمد السادس.
دفع ذلك الحكومة الفرنسية إلى المطالبة بتفسير من الحكومة الإسرائيلية التي سارعت إلى إرسال وزير دفاعها إلى باريس لبضع ساعات كي تؤكد لفرنسا أن إسرائيل ستتعامل مع الأمر بجدية، فيما أكدت الوكالة الوطنية الفرنسية لأمن أنظمة المعلومات العثور على آثار لبرنامج بيغاسوس الخبيث على هاتف صحفي كبير في شبكة الأخبار الدولية "فرانس 24" المملوكة للدولة.
يؤكّد هذا الكشف الأخير على نتيجة حاسمة واحدة: "إن إس أو" خارجة عن السيطرة، حيث أصبحت خدمات القرصنة الخبيثة، غير المقيدة فعليًا، تهديدًا أمنيًا كبيرًا في الفضاء الإلكتروني، وتحظى بالدعم الكامل من حكومة إسرائيلية مستعدة لغض الطرف عن أنشطة الشركة من أجل تعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية.
الحقيقة أن "إن إس أو" ليست سوى غيض من فيض، حيث تُعتبر إسرائيل مركزًا دوليًا لشركات برامج التجسس التي يأتي موظفوها الرئيسيون دائمًا من الجيش الإسرائيلي، وخاصةً "وحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية 8200"، فلقد أتقن جيش الدفاع الإسرائيلي العديد من استراتيجيات المراقبة بعد عقود من انتهاك حق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في الخصوصية.
الخدمات التي تقدمها شركات القرصنة الإسرائيلية هي أقوى حجة للتطبيع بين الأنظمة الاستبدادية التي تخاف من شعبها منذ الربيع العربي ومن إسرائيل، إذ كان الجهاز الأمني الإسرائيلي لعقود من الزمان يستعرض قدرته على استخدام التقنيات المتطورة في قمع السكان الواقعين تحت الاحتلال واحتوائهم، مما يجعله قبلة إقليمية للحكام الاستبداديين.
حتى الطريقة التي يتم بها تسويق برامج التجسس الخاصة بـ "إن إس أو" تبدو مألوفة للغاية بالنسبة للفلسطينيين، لأنها هي نفسها الدعاية النموذجية التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي ضدهم، إذ تدّعي "إن إس أو" أنها تزود الحكومات المصرح لها بخدمات القرصنة التي تساعدها على "مكافحة الإرهاب والجريمة"، وهي الحجة ذاتها التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في كل مرة لتبرير كل عمل وحشي ضد المدنيين الفلسطينيين.
زعزعة الاستقرار الدولي
تقترب الآن ساعة الحساب أخيرًا بالنسبة للشركة لأنها تجاوزت الخط الأحمر بتوظيف أدواتها للهجوم الإلكتروني في خدمة المستبدين ضد الدول الغربية التي كانت تقليديًا من أقوى حلفاء إسرائيل، مثل المملكة المتحدة وفرنسا.
ولن تكون "إن أس أو" الوحيدة التي ستواجه عقوبة، لأن الحكومة الإسرائيلية ضالعة بشكل كامل في هذه الأنشطة الخبيثة لأنها وفرت للشركة منذ فترة طويلة حصانة كاملة لإحداث الفوضى بحرية ودون قيود.
تزعم وزارة الدفاع الإسرائيلية أنها تحافظ على معايير صارمة قبل إصدار تصاريح لتصدير تقنيات الاستخبارات الإلكترونية التي تأتي بعد عملية شاقة من التدقيق الشديد، كما تدعي الوزارة أنها تواصل الإشراف على مثل هذه المشاريع حتى بعد منح التصاريح. ومع ذلك، فإن "إن أس أو" واحدة من الشركات الإلكترونية التي لا تحصل على تصريح مرور مجاني على صادراتها الخطيرة والمدمرة للأنظمة القمعية فحسب، وإنما تتمتع أيضًا بالحماية الكاملة من قبل الحكومة الإسرائيلية.
على سبيل المثال، عندما قدمت منظمة العفو الدولية التماسًا إلى محكمة إسرائيلية لإلغاء رخصة تصدير "إن أس أو" نظرًا للضرر الذي تسببه، وأحضرت لها أدلة دامغة على مخالفات الشركة، رفضت المحكمة القضية تمامًا وقالت إن وزارة الدفاع الإسرائيلية تصر على إجراءات رقابة دقيقة على الصادرات الدفاعية.
كانت الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو راعية لـ "إن أس أو"، حيث روجت ودفعت مبيعات برامج التجسس الخاصة بها في جميع أنحاء العالم، وأينما سافر نتنياهو في زيارات رسمية، تلت تلك الزيارات صفقات بين حكومة الدولة التي تمت زيارتها و"إن أس أو"، وذلك من المجر إلى المكسيك ومن الهند إلى المملكة العربية السعودية والمغرب والإمارات العربية المتحدة والبحرين وغيرها.
تزعم وزارة الدفاع الإسرائيلية أنها تحافظ على معايير صارمة قبل إصدار تصاريح لتصدير تقنيات الاستخبارات الإلكترونية التي تأتي بعد عملية شاقة من التدقيق الشديد، كما تدعي الوزارة أنها تواصل الإشراف على مثل هذه المشاريع حتى بعد منح التصاريح.
محمد شحادة، مسؤول البرامج والاتصال في الأورومتوسطي
هذا يجعل من إسرائيل قوة مُزعزِعة للاستقرار الإقليمي والدولي حيث كانت شركات برامج التجسس الخاصة المدعومة من الدولة - والتي ترعاها أيضًا - الذراع غير الرسمية للحكومة الإسرائيلية التي يتم توظيفها "بشكل غير رسمي" للقيام بأكثر الأعمال وحشية، مثل التجسس والتدخل في الدول الأجنبية.
يمكن ملاحظة ذلك أيضًا في أنشطة شركة إسرائيلية أخرى مختصة بالأمن الإلكتروني، وهي شركة "ساي غروب"، التي أدارت عملية قمع الناخبين بقيمة 2 مليون دولار لدعم حملة دونالد ترامب عام 2016، فوفقًا لتقرير عام 2020 الصادر عن لجنة مجلس الشيوخ الأمريكية المختارة للاستخبارات، دفع ثمن العملية جورج نادر، مستشار حاكم الإمارات الفعلي محمد بن زايد.
إن تواطؤ الحكومة الإسرائيلية مع أسلحة "إن أس أو" الإلكترونية يجب أن يثير أكثر من مجرد الدهشة، فالمساءلة أمر بالغ الأهمية، إذ إن أقل ما يجب أن تفعله حكومة إسرائيل هو الإلغاء الفوري لرخصة التصدير الخاصة بـ "إن أس أو" وحظر تجارة برامج التجسس.
تَعرِضُ شركة "إن إس أو" خدمات متعلقة بالأمن الإلكتروني، لكنها تقدم فيروسات معدية، فباستخدامها برنامج "بيغاسوس"، أداتها للهجوم الإلكتروني، لا تهدف الشركة لجعل العالم أكثر أمنًا وإنما أكثر ضعفًا وهشاشةً وخوفًا، فإذا تمكنت "إن أس أو" من اختراق هواتف رجال الدولة والبرلمانيين والمديرين التنفيذيين، فلن يكون أي هاتف في مأمن من برامجها الخبيثة إلى أن يتم اتخاذ إجراء ضدها.
هذا المقال نُشر للمرة الأولى باللغة الإنجليزية على موقع Politics Today