يُعرّف "الحكم الرشيد" من منظور حقوقي بالعملية التي تقوم بموجبها المؤسسات العامة بتسيير الشؤون العامة وإدارة الموارد العامة وضمان إعمال حقوق الإنسان، لكنّ من منظور الرئيس التونسي "قيس سعيّد"، فإنّ الحكم لن يكون رشيدًا إلا إذا استبدلنا "المؤسسات العامة" في السلطات الثلاث بقيس سعيّد نفسه، فهو وحده الذي يرى ويعرف ويقدّر احتياجات الدولة، ويستطيع تخليصها من الفساد السياسي والاجتماعي والقضائي والاقتصادي وكافة العلل التي يمكن أن تصيبها.

منذ اليوم الأول للإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو/ تموز 2021، بدا واضحًا أنّ "قيس سعيّد" سيمضي بقوّة في طريق الحكم الشمولي واحتكار السلطة، وإلغاء إرادة الشعب التونسي بل ادعاء الوصاية عليها بذرائع ضعيفة الحجة، واستناد دستوري ركيك.

ولكنّ لنُعمل المنطق قليلًا، هل يُمكن لرجل أمضى أقل من عامين في السلطة (وقت إعلان الإجراءات)، ولم يسبق له أن تولّى مناصب سياسية أو عسكرية، وليس له نفوذ فعلي في أجهزة الدولة، أن ينفّذ كل تلك التدابير التي تحتاج إلى "ديكتاتور مخضرم" كي تطبّق فعليًا على أرض الواقع؟

لا بُدّ أن نفتّش هنا عن شركاء "قيس سعيّد" الأقوياء، والذين ظهروا معه في الكلمة المتلفزة التي أعلن فيها الإجراءات الاستثنائية، ولكنّهم دائمًا ما يفضلون العمل بصمت وربما خلف الكواليس أكثر منه أمام عدسات الكاميرات، ولديهم في الحقيقة مشكلة معقّدة مع الديمقراطية وتطبيقاتها في منظومة وشكل الحكم في الدولة.

   حرص الرئيس على تنفيذ زيارات دورية للمقار الأمنية والعسكرية، في استعراض قوة أمام خصومه السياسيين   

بدأت معالم تورّط المؤسسة العسكرية التونسية في المشهد الجديد بالتكشّف فور إعلان "سعيّد" عن الإجراءات الرئاسية، إذ أغلق الجيش جميع منافذ مقرّ البرلمان، ومنع رئيسه "راشد الغنوشي" وبعض الأعضاء من الدخول إليه، في انحياز واضح لقرارات الرئيس المثيرة للجدل. ربما يقول البعض إنّ الجيش واجبه تنفيذ تعليمات الرئيس، لكنّ المنطق يقول إنّ تحركات الجيش السريعة والحاسمة لا تدل سوى على أنّ جنرالاته كانوا أحد الأطراف الرئيسة المشتركة في التخطيط لتلك الإجراءات الاستثنائية، إذ يبدو الأمر سخيفًا –بالنظر إلى مستوى النفوذ- لو افترضنا أنّ الرئيس قد وضع الجيش تحت الأمر الواقع أو أجبره على تنفيذ التعليمات بصفته الدستورية.

ومع أنّ الجيش التونسي حافظ بدرجة كبيرة على حياده منذ إسقاط الرئيس الراحل "زين العابدين بن علي" في 2011، وتجنب التدخل المباشر في الحياة السياسية، إلّا أنّ انحيازه غير المُعلن لإجراءات "قيس سعيّد" يفتح المجال واسعًا أمام مرحلة جديدة قد تكون مشابهة لوضع الجيوش في دول عربية عدة، وهي الوصاية العسكرية على الحكم -حتى وإن بدا ديمقراطيًا.

إذا ما نظرنا بتجرّد وموضوعية إلى التطورات في مرحلة ما بعد 25 يوليو/ تموز 2021، سنجد أنّ الرئيس "قيس سعيّد" ينفّذ بشكل منظم مجزرة بشعة بحق التجربة الديمقراطية النادرة في تونس، إذ طالت قراراته الإقصائية تقريبًا جميع جوانب الحياة الديمقراطية، بل وقرر أيضًا السيطرة على منظومة القضاء وعزل قضاة بتهم فضفاضة لم يتأكد من إدانتهم فيها سوى "قيس سعيّد" نفسه. ووسط كل هذه القرارات، حرص الرئيس على تنفيذ زيارات دورية للمقار الأمنية والعسكرية، في استعراض قوة أمام خصومه السياسيين، وتأكيد علني على مصدر القوة الذي يستند عليه في قراراته الصاخبة.

إنّ الشواهد على تورّط المؤسسة العسكرية في المشهد الحالي في تونس أكثر من أن تُذكر، ويكفي على سبيل المثال لا الحصر أن نستدعي مشهد المحاكم العسكرية التي حوكم أمامها نائب في البرلمان، وصحافي لأول مرة في تاريخ تونس. علاوة على ذلك، كانت الأجهزة الأمنية مستعدة أو متحمسة على الأغلب لتنفيذ عشرات القرارات المتعلقة بالتوقيف والاقتحام ومنع السفر والإقامة الجبرية والإغلاق وغيرها، ضد خصوم ومعارضين سياسيين رفضوا احتكار السلطة وعودة القبضة الأمنية، ووسائل إعلام وصحافيين لم يكن ذنبهم سوى نقل الحقيقة بمختلف أوجهها.

يمضي الرئيس "قيس سعيّد" بخطى سريعة في قراراته التي لا يبدو أنّ أحدًا راضٍ عنها غير شركائه الأقوياء، فقد دعا إلى حوار وطني أقصى منه القوى السياسية، وحدد موعدًا للاستفتاء على دستور جديد من صياغة لجنة شكلّها بنفسه وتعمل تحت إمرته وشركائه الذين ما كان لينفذ أيًا من قراراته سوى بدعمهم وقوتهم، لتعود تونس بذلك سنوات إلى الوراء، حيث ظلمات الديكتاتورية وحكم الفرد الواحد.

لا يمكن التنبؤ الدقيق حتى الآن بالأسباب التي دفعت المؤسسة العسكرية إلى الاشتراك مع "سعيّد" في الانقضاض على المؤسسات الديمقراطية، ولكنّ ما يجب أن يهمنا مستقبلًا هو مصير أي تجربة ديمقراطية مقبلة في تونس، وهل حقًا حينما يشتعل خلاف بين السلطات فإنّ من يرجّح الكفّة سيكون من يملك القوة على الأرض؟

هذه الإجابة قد تتضح مع ما سيؤول إليه المشهد الحالي والشكل الذي ستخرج به تونس من هذه الأزمة، إذ لا تبدو مهمة الرئيس التونسي وشركائه في هدم الديمقراطية والسيطرة على مؤسسات الدولة سهلة وسلسة مع وجود كيانات نقابية وسياسية منظمة ولها تاريخ طويل في الدفاع النبيل عن حقوقها ومكتسباتها، ومع وجود أيضًا دعوات دولية خجولة -لا ترقى لأن تكون ضغوطًا- للرئيس بضرورة احترام إرادة التونسيين وإنهاء سياسة الإقصاء، والعودة إلى المسار الديمقراطي.