لعدة قرون بعد إطلاق أول صحيفة رسمية في القرن السادس عشر الميلادي، تمحورت الصحافة بشكل عام حول تعزيز رواية الحكومات والسياسيين.

وبينما وُجدت لاحقًا طرق وأدوات جديدة للصحافة وظهر مصطلح "الإعلام" في عشرينيات القرن الماضي، كان تركيز الصحافة منصبًّا بشكل أساسي على الإخبار عن الأنشطة والمستجدات المتعلقة بالحكومات بشكل خاص، وكان ذلك نتيجة متوقعة لحقيقة أن معظم وسائل الإعلام والمؤسسات الإخبارية كانت تملكها أو تُديرها حكومات أو رجال أعمال ذوو نفوذ، أو شركات بارزة مرتبطة بالدول أو الأحزاب السياسية.

اليوم، في الوقت الذي أصبحت فيه وسائل الإعلام أكثر استقلالية من الناحية الهيكلية والسياسية، نشهد اليوم تقدمًا كبيرًا فيما يتعلق بإفساح المجال لروايات أخرى، بما في ذلك قصص الضحايا وشهود العيان.

وفي حين أن قصص الناجين تعد جزءًا بالغ الأهمية من جهود حقوق الإنسان؛ كون شهاداتهم تشكل أداة مهمة لتوثيق الانتهاكات وتحديد الجناة، إلا أنه وفي بعض الحالات، ساهم عاملون في مجال الإعلام والصحافة في مفاقمة معاناة الضحايا، إما من خلال إساءة استخدام قصص الضحايا والناجين، أو التعامل معها بمنطلق براغماتي بحت.

صمت الضحايا والناجين

في ظل استمرار النزاعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتفاقم العديد من الأزمات الإنسانية حول العالم، أصبح العديد من الصحافيين والمؤسسات الإعلامية يولون السبق الصحافي أهمية أكبر من إحداث التأثير الإيجابي، مُقدمين مصالحهم المادية على سلامة وصحة الضحايا العقلية.

لهذا السبب، بات كثير من الضحايا ساخطين على وسائل الإعلام بشكل عام، مشككين في فعالية الصحافة، ومعتقدين أن معظم الصحافيين "ينتفعون من معاناتهم"، بحسب وصف أحد الضحايا. ولذلك، أصبح معظم الضحايا يترددون في التحدث أو التعامل مع الصحافيين ووسائل الإعلام، ما صعّب من مهمة الصحافيين الذين يحملون رسائل حقيقية في إيصال أصوات الفئات المهمشة.

وفي حين أن هذا التصور السلبي عن الصحافيين يبقى غير دقيق إلى حد كبير، هناك بالفعل نسبة من الصحافيين الذين حادوا عن طريق الصحافة الصحيحة، متعاطين معها على أنها مصدر دخل ومجد شخصي ومتجاهلين المسؤولية الهائلة التي تنطوي عليها.

   العاملون في وسائل الإعلام ممن يعتبرون الصحافة مجرد مهنة ذات دخل جيد يتجاهلون حقيقة أنها مهنة إنسانية تمامًا كالطب   

خلال الحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة في مايو 2021، لعبت وسائل الإعلام الدولية دورًا مهمًا في منح الضحايا الفلسطينيين صوتًا، إلى جانب رفع الوعي حول الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة التي ارتُكبت ضد المدنيين في قطاع غزة. فبعد عقود من تكميم أفواه الضحايا والناجين، كان العالم قادرًا على رؤية وقراءة الجانب الآخر من القصة. ساعد هذا الكشف عن مأساة المدنيين على تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان، التي كانت -لولا ذلك- ستمر مرّ السحاب بالنسبة للكثيرين.

لكن اليوم، وبعد انتهاء الهجوم العسكري، يرفض كثير من الضحايا وشهود العيان الذين تحدثوا لوسائل الإعلام أو صُوروا خلال الهجوم التعامل مع الصحافيين والمؤسسات الإعلامية؛ بسبب تجربتهم السيئة معهم في ذروة محنتهم.

خلال العملية العسكرية التي استمرت 11 يومًا، قُتل 260 فلسطينيًا، كان من بينهم 129 مدنيًا على الأقل، 66 منهم من الأطفال. خلال الهجوم، التقط الصحافيون صورًا ومقاطع فيديو لفرد واحد على الأقل من كل عائلة مفجوعة تقريبًا لحظة تفاعلهم مع الصدمة أو حزنهم على فقد ذويهم، دون موافقة مسبقة أو لاحقة في معظم الحالات. بمجرد تعافيهم من الصدمة الأولية، شعر الضحايا والناجون أو ذووهم بأن خصوصيتهم قد انتُهكت حين وجدوا أنفسهم فجأة تحت الأضواء، غير قادرين على التحكم في مدى اختراق خصوصيتهم. أدى انتهاك الخصوصية هذا إلى تفاقم الحالة التي يمر بها هؤلاء الناجون، وجعل قسمًا كبيرًا منهم مترددًا في الإدلاء بشهاداته.

وحتى بعد أكثر من عام على الهجوم، ما يزال الصحافيون يواجهون تحديات كبيرة في محاولة إقناع عائلات الضحايا بالتحدث إلى وسائل الإعلام، في الوقت الذي يرفض قسم كبير منهم أن يعيشوا من جديد الصدمة المزدوجة المتمثلة في "الانكشاف" للعامة أثناء محاولة استيعاب فكرة الخسارة المؤلمة لأحد أحبائهم. يرفض هؤلاء المقابلات الصحافية والإعلامية حتى بعد محاولة الصحافيين طمأنتهم حول ضمان احترام خصوصياتهم؛ لقد فقد الناجون ببساطة الثقة في وسائل الإعلام.

لا تؤدي ممارسات وسائل الإعلام الضارة إلى إعاقة عمل الصحافيين المهنيين أو دفع أولئك الذين ما يزالون يعانون صدمات نفسية إلى التزام الصمت فحسب، بل لها أيضًا آثار مدمرة على الصحة العقلية للناجين وعائلاتهم.

تفاقم سوء الصحة العقلية

مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والأدوات المتعددة لوسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة، أدت المنافسة المتزايدة بين المؤسسات الإخبارية والإعلامية لجذب انتباه الجمهور إلى تعرض الصحافيين لضغوط متزايدة لتغطية الأحداث الإخبارية "غير العادية" أو البحث عن تفاصيل حصرية وراء بعض القصص لمشاركتها.

عند تغطية الأحداث التي تشمل ضحايا، كالنزاعات المسلحة والأزمات الإنسانية والجرائم الأخرى، يتحمل الصحافيون مسؤولية الموازنة بين حاجة الجمهور إلى التفاصيل المقنعة للقصة والضرر الذي يمكن أن يتسبب به كشفها.

في بعض الحالات، قد يؤدي الإفراط في مشاركة تفاصيل القصة إلى تعريض حياة صاحبها للخطر. على سبيل المثال، تفضل العديد من عائلات معتقلي الرأي في البلدان التي تحكمها أنظمة قمعية عدم الكشف عن هويتهم عند التحدث إلى وسائل الإعلام لتجنيب أقاربهم المسجونين أذى السلطات.

وقد يولي بعض الصحافيين القليل من الاهتمام لحساسية مثل هذه الحالات، فيُخفون أسماء الأشخاص الذين قابلوهم بالفعل، ولكنهم يكشفون عن تفاصيل أخرى قد تكشف عن هوية السجين؛ مثل عمره أو عنوانه أو مهنته أو تفاصيل شخصية أخرى. وقد يؤدي هذا الإهمال إلى قيام السلطات المُستبدة بتعذيب السجين أو تمديد مدة عقوبته أو إخفائه قسرًا أو حرمان أفراد عائلاته من حق زيارته أو الاتصال به كشكل من أشكال العقوبة. وفي حالات أخرى، حتى لو لم تتعرض حياة المعتقل للخطر، يمكن أن يؤدي الإعلام المتطفل لإلحاق ضرر جسيم بصحته العقلية، ما قد يتسبب في معاناة نفسية واجتماعية كبيرة.

في هذا الصدد، وصفت "كيت ماكان"، والدة طفل فُقد في البرتغال عام 2007، تغطية وسائل الإعلام المتطفلة لقصتها بأنها "اغتصاب معنوي" جعلها تشعر بأنها "بلا قيمة".

وفي حادثة تلت ذلك ببضع سنوات، قال "بوب" و"سالي داولر"، والدا "ميلي داولر"، وهي طالبة تبلغ كانت تبلغ من العمر 13 عامًا حين قُتلت في المملكة المتحدة عام 2002، إن التغطية الإعلامية لمحنتهم ضاعفت من معاناتهم. وأضافا في بيان مشترك عام 2011: "ما لم نقدّره هو الحد الذي يمكن أن تتدخل فيه الصحف في معاناتنا الخاصة، ومدى ضآلة سيطرتنا على الحدود التي تُوضع في هذا الصدد".

في الآونة الأخيرة، مع انتشار جائحة فيروس كورونا، ساهم العديد من الصحافيين والمؤسسات الإعلامية في المساهمة بخلق صورة نمطية سلبية لبعض الفئات، ما فتح الطريق أمام مزيد من التمييز العنصري وكراهية الأجانب وخطاب الكراهية، لا سيما ضد الآسيويين في العديد من الحالات. وبطيعة الحال، ذكر العديد من الآسيويين أن التغطية الإعلامية للوباء أدت إلى إلحاق الضرر بصحتهم النفسية.

لذلك، فإنه بينما تبقى الصحافة أداة قوية ومهمة لتحقيق العدالة للضحايا، إلا أنه يجب الوقوف على الضرر الذي يلحقه بعض الصحافيين والمؤسسات الإخبارية بالناجين وعائلاتهم، فالعاملون في وسائل الإعلام ممن يعتبرون الصحافة مجرد مهنة ذات دخل جيد يتجاهلون حقيقة أنها مهنة إنسانية تمامًا كالطب.

بناءً على ذلك، فإن الصحافي الذي يُجري مقابلة مع ضحية أو يكتب تقريرًا حول حدث ينطوي على انتهاكات لحقوق الإنسان عليه أن يراعي حساسية الحالة، ويعمل بحرص شديد كطبيب يجري عملية جراحية؛ فكلا التقرير الإخباري والعملية الجراحية يمكن أن يتسببا بضرر طويل الأمد على الصحة الجسدية أو العقلية للأشخاص.

هذا المقال مترجم من اللغة الإنجليزية، للاطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا​