في مطلع أكتوبر/ تشرين أول 2019، نزل آلاف العراقيين إلى الشوارع في العاصمة بغداد ومحافظات أخرى للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية الصعبة وارتفاع نسب الفقر والبطالة، إلى جانب المطالبة بالتصدي للفساد الذي يعتقد المحتجون أنّه منتشر في جميع مفاصل الدولة، واستمرت الاحتجاجات عدة أشهر قبل أن تتراجع حدّتها بسبب تفشي جائحة كورونا في البلاد.
واجهت قوات الأمن العراقية المحتجين بالعنف المفرط ونشرت القناصة في محيط أماكن التظاهر وساحات الاعتصام، واستخدمت وسائل القمع العنيفة ضد المحتجين، بما في ذلك الرصاص الحي، والاحتجاز، والتعذيب، والضرب والإهانة، ما أدّى إلى مقتل نحو 730 عراقيًا، وجرح أكثر من 25 ألفًا آخرين، إضافة إلى تعرّض عشرات المتظاهرين للإخفاء القسري، خلال ستة أشهر من الاحتجاجات.
ومما كان لافتًا خلال تلك الأحداث، مشاركة ميليشيات مسلّحة في عمليات قمع المتظاهرين على نحو واسع، إذ شارك المئات من المسلحين الذين يُزعم بانتمائهم لبعض القوى والتيارات السياسية العراقية في عمليات قتل المتظاهرين وإخفائهم في أماكن احتجاز غير رسمية، وتعريضهم لأنواع مختلفة من التعذيب وسوء المعاملة.
ورغم تشكيل رئيس الوزراء الأسبق "عادل عبد المهدي" لجنة تحقيق رسمية في الانتهاكات التي تعرّض لها المتظاهرون، وتشكيل لجنة تحقيق رسمية أخرى بعد تولي "مصطفى الكاظمي" رئاسة الحكومة في مايو/ أيّار 2020، إلّا أنّ العدالة ما تزال بعيدة المنال، إذ لم يخضع أي من المسؤولين عن عمليات القمع والقتل للمساءلة الجنائية، واكتفت السلطات بإعفاء وعزل عدد من قادة الأمن، وصرف تعويضات مالية لأهالي القتلى، وأخرى للمصابين.
أما فيما يتعلق بعمليات الاختطاف التي تعرّض لها ناشطون ومتظاهرون وأسفرت عن إخفاء عشرات منهم قسرًا، فلم تسفر التحقيقات عن كشف مصير هؤلاء الأشخاص حتى اليوم، وبقيت عائلاتهم دون إجابات أو معلومات حول مصير أبنائها.
أجرى فريق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان مقابلات مع مجموعة من ضحايا الاحتجاجات، إلى جانب عائلات ضحايا تعرّض أبناؤهم للقتل أو الإخفاء القسري، ووثق إفاداتهم حول سير التحقيق في الجرائم التي وقعت عليهم. أبلغ جميع الذين أدلوا بإفاداتهم أنّهم ما يزالون ينتظرون تحقق العدالة، وأجمعوا على عدم فعالية التحقيقات الرسمية في ظل غياب آليات تواصل منتظمة بينهم وبين جهات التحقيق.
في هذا التقرير الموجز، يسعى المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان لبيان أوجه غياب المساءلة عن الانتهاكات التي تعرض لها المتظاهرون خلال احتجاجات تشرين أول/ أكتوبر 2019 في العراق، إلى جانب استعراض نتائج عمل لجان التحقيق الحكومية والأسباب المحتملة لفشلهما، ويقدّم توصيات عملية قد تسهم في إنصاف الضحايا ومنع إفلات الجناة من العقاب.
على مدار ثلاثة أعوام، تشكّلت عدد من اللجان للتحقيق في قتل وقمع المتظاهرين خلال احتجاجات أكتوبر/ تشرين أول 2019، وكان أبرزها لجنتان حكوميتان؛ الأولى شكّلها رئيس الوزراء العراقي إبان الأحداث "عادل عبد المهدي"، والثانية شكّلها رئيس الوزراء "مصطفى الكاظمي" عقب توليه رئاسة الحكومة في مايو/ أيار 2020.
- لجنة التحقيق الحكومية الأولى
مع تصاعد عمليات قتل وقمع المتظاهرين، أعلن رئيس الوزراء آنذاك "عادل عبد المهدي" في 12 أكتوبر/تشرين أول 2019 تشكيل لجنة وزارية عليا للتحقيق في الأحداث برئاسة وزير التخطيط "نوري الدليمي". وبعد عشرة أيام، نشرت اللجنة تقريرًا بالنتائج والتوصيات التي توصلت إليها، ومن أبرزها:
- التأكيد على مقتل 149 مدنيًا، وثمانية عسكريين، خلال ستة أيام من التظاهرات التي بدأت أوائل أكتوبر/تشرين أول 2019.
- التوصية بإعفاء كل من قائد عمليات بغداد وقائد شرطة بغداد وقائد عمليات الرافدين وقائد شرطة ذي قار وقادة شرطة ميسان وواسط والديوانية والنجف من مناصبهم على خلفية أعمال العنف التي جرت خلال شهر أكتوبر/تشرين أول 2019.
- الكشف عن أدلة على استهداف قناصة المحتجين بالرصاص الحي من أحد المباني وسط بغداد.
- الإشارة إلى أن التقارير الطبية أظهرت أنّ 70% من إصابات المتظاهرين كانت بالرأس والصدر.
- التأكيد على أنّ الجهات العليا لم تصدر أوامر رسمية بإطلاق الرصاص على المتظاهرين.
- إحالة رئيس الوزراء العراقي آنذاك "عادل عبد المهدي" نتائج التحقيق بالكامل إلى القضاء.
واجه تقرير اللجنة انتقادات حادة من الضحايا وعائلات القتلى إلى جانب المنظمات الحقوقية، إذ سعى على ما يبدو إلى تبرئة القيادة السياسية والأمنية من مسؤولية قتل المتظاهرين، والتستر على الجهات الفعلية التي أعطت الأوامر بتنفيذ عمليات القمع، إلى جانب عدم الوضوح في تحديد المسؤولية الجنائية عن الانتهاكات، وترك الباب مفتوحًا أمام إمكانية إفلات الجناة من العقاب.
ورغم إعلان رئيس الوزراء آنذاك "عادل عبد المهدي" إحالة نتائج التحقيق إلى القضاء، نفى مجلس القضاء الأعلى في 4 أكتوبر/تشرين أول 2020 تسلّمه "ملفًا يخص مرتكبي جرائم القتل والخطف التي طالت متظاهري تشرين"، وقال إنّه تسلم فقط "ملف تحقيق إداري ليس فيه متهمين محددين (...)، ولم يتضمن الملف تقصير أية جهة سواء كانت مؤسساتية أو شخصية". وبذلك يمكن القول إنّ لجنة التحقيق الأولى فشلت في ترتيب أي مساءلة جنائية على المتورطين في الانتهاكات ضد المتظاهرين.
- لجنة تقصي الحقائق
في 9 مايو/أيّار 2020، أعلن رئيس الوزراء العراقي "مصطفى الكاظمي" تشكيل لجنة قانونية عليا لتقصي الحقائق في كل الأحداث التي حصلت منذ الأول من تشرين الأول عام 2019 وحتى تاريخ تشكيل اللجنة.
في 4 يونيو/حزيران 2020، قال الكاظمي خلال لقاء مع أسر قتلى التظاهرات إنّه "وجّه الجهات المعنية بفتح تحقيقات جنائية تفصيلية حول عمليات الاغتيال، وأنه يتابع شخصياً هذه التحقيقات، واعداً عوائل الضحايا أن دماء أبنائهم لن تذهب سدى، وأن القانون سيقتص من كلّ متورط بدم العراقيين".
في 30 أغسطس/أب 2020، أعلن "الكاظمي" إنهاء المرحلة الأولى من التزام الحكومة "بالتقصّي عن الحقائق حول أحداث تشرين، بجرد أعداد الشهداء والبدء بتسليمهم استحقاقاتهم القانونية، وجرد أعداد الجرحى وإنهاء استحقاقاتهم".
وفي 18 أكتوبر/تشرين أول 2020 عقدت اللجنة اجتماعها الأول، وضمّت خمسة من القضاة المتقاعدين وعددًا من المحققين والخبراء، وقال "الكاظمي" حينها إنّ " تشكيل هذا الفريق لا يهدف الى الثأر أو الانتقام بقدر ما يمثل موقفاً مسؤولاً من الدولة أمام دماء شعبها، وإن من تورط بدم العراقيين لابد أن يمثل للعدالة، ولا كبير أمام القانون".
في 28 مايو/أيار 2021، قال المتحدث باسم لجنة تقصي الحقائق "محمد الجنابي" إنّ مستشار لجنة تقصى الحقائق أكّد أنّ "الكشف عن الجناة مسألة وقت"، لافتاً إلى أنّ "السبب هو أن العملية قضائية وقانونية وتحتاج الى كشف الأوراق والأدلة الجنائية وكشف الدلالة والاطلاع على سجلات الطب العدلي والاستماع الى الشهود وذوي الضحايا إضافة إلى استدعاء المتهمين، لضمان صدور قرار قضائي صحيح يحال الى المحاكم المختصة دون وجود أي ثغرة قانونية أو خطأ أو اتهام أحد جزافا".
وحول مجريات عمل اللجنة، أكّد "الجنّابي" استدعاء 112 ضابطًا ومنتسبًا للتحقيق في الأحداث من بينهم 22 ضابطًا من رتبة نقيب إلى لواء، ونحو 90 منتسبًا من وزارتي الداخلية والدفاع، وبيّن أنّ "قسمًا من الضباط والمنتسبين متهمون بقضايا قتل والقسم الآخر من المتضررين والضحايا".
وأضاف أن "اللجنة استدعت أكثر من 7000 وثيقة قضائية من المحاكم المختصة، وتم الاطلاع عليها من قبل أعضاء لجنة تقصي الحقائق. وقال إنّ "اللجنة استدعت أيضًا عوائل الشهداء من المحافظات، وسجّلت شهاداتهم وقامت بإحالتهم الى المؤسسات الرسمية كمؤسسة الشهداء وضحايا الارهاب لتعويضهم وشمولهم ضمن القوانين السارية في الدولة".
رغم ذلك، لم تعلن اللجنة عن نتائج عملها حتى تاريخ هذا التقرير، ولم يمثل أمام المحاكم أي من المتورطين في عمليات قتل وقمع المتظاهرين. وحول أسباب ذلك، قال وزير الداخلية في حكومة الكاظمي "عثمان الغانمي" في يناير/ كانون ثان 2021، إنّ سبب عدم التوصل إلى نتائج يعود إلى أنّ بعض جرائم قتل المتظاهرين في العاصمة بغداد "وقعت نتيجة لتصرفات شخصية قطعية"، وأنّ "كاميرات المراقبة لم تساهم في كشف جرائم قتل المتظاهرين لأنها كانت تعاني من خلل تم إصلاحه أخيرًا"، ووصف الوصول إلى الحقائق أنّه "أمر معقد".
- لجنة تقصي الحقائق بشأن وجود سجون سرية
شُكّلت اللجنة بموجب أمر ديواني بتاريخ 14 مايو/أيار 2020 أصدره رئيس الوزراء العراقي "مصطفى الكاظمي" لتقصي الحقائق عن وجود سجون حكومية سرية يحتجز فيها متظاهرون، ومُنحت صلاحيات واسعة بإرسال فرق تفتيشية يسمح لها بالدخول إلى أي مؤسسة أمنية أو مبنى يشتبه بوجود سجن سري داخله، ولكّن اللجنة لم تعلن أي تفاصيل أو نتائج بخصوص أعمالها.
- القتلى
منذ بداية احتجاجات أكتوبر/تشرين أول 2019، استخدمت قوى الأمن والميليشيات المسلحة القوة المفرطة في التعامل مع المتظاهرين، بما في ذلك الرشاشات والأسلحة الآلية، ما أدّى إلى سقوط عدد كبير من القتلى، بلغ نحو 730 عراقيًا خلال نحو 6 أشهر. وحتى تاريخ نشر هذا التقرير، لم تتحقق المساءلة الجنائية عن هذه الجرائم، ولم يُحاسب من أصدر الأوامر بتنفيذها أو من نفّذها، واكتفت السلطات بتعويض أهالي القتلى ماديًا من خلال راتب شهري يبلغ مليون ومئتي ألف دينار عراقي (حوالي 817 دولار أمريكي).
وفق الإفادات التي جمعها فريق المرصد الأورومتوسطي، يواجه الضحايا -ولا سيما أهالي القتلى- مماطلة قد تبدو ممنهجة لدى التقدم بدعاوى حول مقتل أبنائهم، وفي بعض الأحيان تتوقف إجراءات التحقيق بسبب رفض القوى الأمنية التعاون مع الجهات القضائية المختصة.
أبلغت عائلة الشاب "أمير سعد جابر" الذي قُتل في 4 أكتوبر/تشرين أول 2019 قرب مبنى مجلس محافظة الديوانية فريق المرصد الأورومتوسطي: "تقدمنا بشكوى وتم على إثرها فتح تحقيق في قضية قتل أمير، وتحول الملف من محافظة الديوانية إلى بغداد، وكان المتهم الرئيس في القضية المفرزة التابعة للفرقة الذهبية التي كانت متواجدة فوق مبنى المحافظة. خاطبت المحكمة الفرقة الذهبية وطلبت أسماء المفرزة التي كانت متواجدة هناك في ذلك اليوم، لكن الفرقة امتنعت عن التعاون، وقالت: "نحن قوة قتالية تابعة لرئاسة الوزراء ولا نستطيع ان نعطيكم الأسماء". ولغاية الآن لم يتم محاسبة المتورطين في ارتكاب هذه الجريمة."
علاوة على ذلك، لم يحصل عدد من أهالي القتلى على التعويض المُعلن من الحكومة العراقية سوى بعد عامين من مقتل أبنائهم. وفي بعض الأحيان، لا يحصل الأهالي سوى على نصف راتب التعويض المقرر.
في إفادة لفريق المرصد الأورومتوسطي، قالت عائلة الشاب "أمير الكناني" الذي قُتل 25 أكتوبر/تشرين أول 2019 خلال مشاركته في الاحتجاجات: "لم يتم التحقيق في مقتل أمير بشكل رسمي، ولم نحصل سوى على نصف الراتب المقرر بعد سنتين من مقتله".
- المصابون
بلغ عدد المصابين جراء اعتداءات قوات الأمن والميليشيات المسلحة على احتجاجات أكتوبر/تشرين أول 2019 أكثر من 25 ألف متظاهر، أصيب بعضهم بجراح بالغة أدّت إلى عجز شبه كامل في أجسادهم. وعلى نحو مماثل للقتلى من الضحايا، لم يُحاسب المتورطون في تلك الاعتداءات، واكتفت السلطات بالتكفل بنقل عدد من الحالات للعلاج خارج المحافظات التي تسكن فيها، وخارج العراق في بعض الحالات، وأعلنت عن صرف رواتب شهرية للمصابين وفق نسبة العجز.
في 8 سبتمبر/أيلول 2021، التقى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي مجموعة من جرحى احتجاجات أكتوبر/تشرين أول 2019، وتعهّد لهم بـ "متابعة قضاياهم الإنسانية"، لكنّه قال لهم: إنّ الحكومة حاولت أن تبحث " عن حقوقكم كاملة غير منقوصة، وأصدرنا قرارًا في مجلس الوزراء لتعويض ضحايا التظاهرات ومعالجة الجرحى، ومما يؤسف له أن البرلمان رفض".
أبلغ بعض المصابين في احتجاجات أكتوبر/تشرين أول فريق المرصد الأورومتوسطي عن عدم تلقيهم كامل الراتب الشهري التعويضي الذي أعلنت الحكومة عن صرفه للمصابين، رغم تعطّلهم بشكل شبه كامل عن الحركة بسبب الإصابة.
أخبر الشاب "كميل عبد الحسين" (21 عامًا)، وهو أحد مصابي الاحتجاجات، فريق المرصد الأورومتوسطي:
"أُصبت بطلق ناري أثناء وجودي بساحة اعتصام النجف بتاريخ 5 فبراير/ شباط 2020. تسبّبت الرصاصة بإصابتي بشلل رباعي منعني من ممارسة حياتي بشكل طبيعي. وعلى الرغم من تقديمي شكوى رسمية، إلا أنّها لم تُتابع من الجهات المختصة. لم أحصل على تعويضات، ولم يُحاسب حتى الآن أي من المسؤولين عن إصابتي بالشلل.
وفي بعض الحالات، حُرم المصابون من الحصول على الراتب التعويضي بسبب عدم تمكّنهم من تقديم طلب التعويض لعدم امتلاكهم الرسوم اللازمة لذلك.
أبلغ الشاب "ضرغام حيدر مهدي" (27 عامًا) فريق المرصد الأورومتوسطي: "تعرضت إلى إصابة بقنبلة غاز مسيل للدموع بتاريخ 25 أكتوبر/ تشرين أول 2019، عند جسر الجمهورية بالعاصمة بغداد، ما أدّى إلى إصابتي بكسر في الساق الأيمن. أكّد التقرير الطبي حدوث تهشم في العظام، لكنّي لم أستطع إكمال المعاملة الخاصة بطلب التعويض نظرًا لارتفاع رسومها بالنسبة لإمكاناتي المادية، ولم أحصل على أي تعويض حتى اليوم. تقدمت بشكوى رسمية حول الأمر ولكنّي لم أتلق أي رد".
- المختفون قسرًا
مثّلت جريمة الإخفاء القسري أحد أبرز وأخطر أنماط الانتهاكات التي رافقت احتجاجات أكتوبر/تشرين أول 2019، إذ يُقدّر عدد المختفين قسرًا على خلفية نشاطهم في الاحتجاجات بالعشرات. وعلى الرغم من الوعود الحكومية العديدة بالعمل على متابعة قضاياهم، وتوفر معلومات –في بعض الحالات- لدى أهالي المختفين عن هوية الجناة، إلّا أنّ السلطات فشلت حتى الآن في الكشف عن مصير هؤلاء الأشخاص.
قالت عائلة الناشط المختفي قسريًا "سجاد العراقي" في إفادتها لفريق المرصد الأورومتوسطي: "كان سجّاد ينشط في كشف قضايا الفساد عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، وشارك بفاعلية في احتجاجات أكتوبر/ تشرين أول. وفي يوم 19 سبتمبر/ أيلول 2020 تعرّض للاختطاف من إحدى الجهات المعروفة لدينا، وأبلغنا الجهات الأمنية بهوية الخاطفين المحتملين لكنّها لم تتعاون معنا. مرّ على اختطاف سجّاد أكثر من عامين ولا نعرف أي معلومات عن مصيره".
وأضافت، "تقدّمنا بشكاوى لدى دوائر أمنية وقضائية عدة، وزودناهم بالمعلومات الشخصية الخاصة بالخاطفين المحتملين وحتى صورهم، ولكن تم إهمال وتجاهل تلك الشكاوى، ولم نلمس أيّ بوادر لمحاسبة الخاطفين والكشف عن مصير سجاد".
وفي بعض الحالات، لم تتعاون الجهات الأمنية والقضائية مع أهالي القتلى، ومارست سلوكًا -يبدو منسّقًا- لتجاهل الشكاوى التي قدّموها، في محاولة على ما يبدو للمماطلة في الإجراءات الخاصة بالشكاوى، من أجل تعقيد محاسبة المتورطين في عمليات القتل، ومنحهم الفرصة للإفلات من العقاب.
أبلغت عائلة الناشط المختفي قسريًا "على جاسب" فريق المرصد الأورومتوسطي: "اختطف علي قرب مقر هيئة الحشد الشعبي بمركز مدنية العمارة في 9 أكتوبر/ تشرين أول 2019 على يد مسلحين يستقلون مركبتين ظهرت تفاصيلهما بشكل واضح في تسجيل كاميرات المراقبة الخاصة ببعض المحلات التجارية في المكان. قمنا بتسجيل دعوى قضائية لدى محكمة العمارة ضد إحدى المليشيات التي نجزم بوقوفها وراء عملية الاختطاف، لكنّ المحكمة لم تتعاون معنا ولم تصدر مذكرة اعتقال ضد المتهمين، ولم تجر كذلك قوات الأمن تحقيقًا جديًا لمعرفة مصير علي".
وأضافت العائلة أنّه "نتيجة النشاطات والفعاليات التي كان ينظمها والد علي -الذي قُتل لاحقًا بسبب هذه النشاطات- نقلت المحكمة ملف الدعوى إلى محكمة الرصافة في بغداد، ولكن المحكمة والقوات الأمنية في بغداد كانتا أكثر تخاذلًا من تلك الجهات في العمارة؛ فعلى الرغم من تقديم معلومات تتضمن أسماء الجناة المحتملين، منعت الجهات الأمنية والد الضحية من مقابلة قاضي التحقيق وكانوا يطردونه من المحكمة، ويمنعونه من الاستفسار عن آخر مستجدات التحقيق".
وقالت العائلة: "التقينا برئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ووعدنا بأن يحضر لنا "علي" بنفسه، ولكنّ هذا الوعد لم يتحقق حتى الآن، وما نزال ننتظر أي معلومات عن مصيره".
من خلال مراجعة ومتابعة عمل لجان التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي رافقت احتجاجات أكتوبر/تشرين أول 2019، يتبيّن بما لا يدع مجالًا للشك أنّها لم تحقق الأهداف التي أنشئت من أجلها، وفي مقدمتها إنصاف الضحايا. وقد يعود ذلك لعدة أسباب، أبرزها:
- افتقرت لجنة التحقيق الأولى التي شكّلها رئيس الوزراء الأسبق "عادل عبد المهدي" إلى صفة الحيادية، وبالتالي لم يكن يُتوقع أن تتمتع باستقلالية ونزاهة في عملها، إذ ضمّت في عضويتها أشخاصًا محسوبين على تيارات متهمة بالمشاركة في عمليات قتل وقمع المتظاهرين، ما أضعف بشكل كبير من مصداقية النتائج التي توصلت إليها.
- النفوذ الكبير للتيارات التُي يُتهم أفرادها بالمشاركة في قتل المتظاهرين في مختلف مفاصل الدولة -ولا سيما الأمن والقضاء- عرقل سير التحقيقات وشكّل عقبة كبيرة أمام وصول الضحايا إلى سبل الانتصاف الفعالة، كما منع الجهات المختصة من تطوير التحقيق في بعض حالات القتل، وشكّل غطاء للجناة للإفلات من العقاب.
- تأزّم العملية السياسية وتصاعد الخلافات بين القوى والأحزاب العراقية خلق حالة من عدم الاستقرار السياسي، ما أدّى إلى إضعاف لجنة تقصّي الحقائق التي شكلها رئيس الوزراء "مصطفى الكاظمي"، وأفقدها الزخم والدعم اللازمين للتحرك بفاعلية في التحقيقات، وحدّ من قدرتها على التعاون والتنسيق مع بعض الجهات المعنية.
- عدم تولي الجهات القضائية التحقيق بشكل مباشر فتح الباب أمام لجان التحقيق للمماطلة في معالجة القضايا، إذ كان ينبغي من الأساس اللجوء إلى المحاكم المختصة، وتزويدها بالأدلة اللازمة لبدء عملية المساءلة الجنائية عن4 التحقيق، وضعف التواصل والتنسيق بينها وبين المعنيين سواء من أهالي الضحايا أو عموم العراقيين، إذ تبيّن من خلال إفادات أهالي الضحايا عدم وجود آلية موحدة اتبعتها لجان التحقيق للتعاون معهم ومتابعة قضاياهم. وإلى جانب ذلك، لم تصدر اللجان بيانات دورية للجمهور حول سير التحقيقات ونتائجها.
يضمن القانون الدولي لحقوق الإنسان حق الأفراد والجماعات في التظاهر السلمي أيًّا كانت خلفياتهم أو انتماءاتهم. ورغم أن معاهدات حقوق الإنسان لا تشير بشكل مباشر إلى الحق في التظاهر، إلا أن المشاركة في التظاهرات تشمل عددًا من الحقوق التي تشير إليها معاهدات حقوق الإنسان بشكل واضح، بما في ذلك الحق في التجمع السلمي، والحق في حرية التعبير عن الرأي.
فشلت السلطات العراقية خلال تظاهرات أكتوبر/تشرين أول 2019 في احترام حق المتظاهرين في التجمع السلمي والتعبير عن الرأي، كما فشلت بالامتثال للقواعد والمعايير الدولية بشأن استخدام القوة، ولا سيما مبادئ الشرعية والضرورة والتناسب. يضمن الدستور المحلّي والالتزامات الدولية للعراق حق الأفراد في التعبير عن الرأي بحرية دون مضايقة أو تقييد، ويُلزم السلطات بحماية هذا الحق. كما أنّ الالتزامات المحلية والدولية ذات العلاقة للعراق تحتّم على السلطات محاسبة جميع المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان جنائيًا، وضمان عدم إفلاتهم من العقاب. ومن أبرز النصوص والقواعد الدولية والمحلية في هذا الإطار:
- المساءلة والمحاسبة
نصّت المادة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) الذي صدّق عليه العراق عام 1971 على وجوب أن تقوم الدولة بمحاسبة المتورطين وأن تكفل توفير سبل التظلم للمتضررين:
"تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد:
(أ) بأن تكفل توفير سبيل فعال للتظلم لأي شخص انتهكت حقوقه أو حرياته المعترف بها في هذا العهد، حتى لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسمية،
(ب) بأن تكفل لكل متظلم على هذا النحو أن تبت في الحقوق التي يدعى انتهاكها سلطة قضائية أو إدارية أو تشريعية مختصة، أو أية سلطة مختصة أخرى ينص عليها نظام الدولة القانوني، وبأن تنمى إمكانيات التظلم القضائي،
(ج) بأن تكفل قيام السلطات المختصة بإنفاذ الأحكام الصادرة لمصالح المتظلمين".
كما نصت المادة (2) من اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (1984)، والتي انضم إليها العراق عام 2011، على وجوب أن تتخذ الدول إجراءات فعالة لمنع أعمال التعذيب وعلى عدم التذرع بأية أوامر للقيام بأعمال تعذيب حيث جاء فيها:
"1-تتخذ كل دولة طرف إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعالة أو أية إجراءات أخرى لمنع أعمال التعذيب في أي إقليم يخضع لاختصاصها القضائي.
2-لا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية أيا كانت، سواء أكانت هذه الظروف حالة حرب أو تهديدا بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلي أو أية حالة من حالات الطوارئ العامة الأخرى كمبرر للتعذيب.
3-لا يجوز التذرع بالأوامر الصادرة عن موظفين أعلى مرتبة أو عن سلطة عامة كمبرر للتعذيب".
- الحق في حرية التعبير عن الرأي والتجمع السلمي
يعد التجمع السلمي أحد أبرز الحقوق التي يجب على الدولة العراقية حمايتها والحرص على تفعيلها، ويقع على عاتق الدولة محاسبة المتورطين في تقييد أو الاعتداء على هذا الحق.
كفل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، وخاصة في المواد مـن (18،19،21،22) حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات، وحظر تقييد تلك الحقوق. وبالمثل، نصّت المادة (38) من الدستور العراقي على الحق في حرية التعبير وحرية الصحافة والإعلام بالإضافة إلى حرية التجمع والتظاهر السلمي، إذ جاء فيها:
"تكفل الدولة، بما لا يخل بالنظام العام والآداب:
أولًا: -حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانيًا: -حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثًا: -حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون"
كما أنّ حقوق العراقيين في الحياة والأمن والحرية مسؤولية أصيلة تقع على عاتق الدولة بموجب المادة (15) من الدستور العراقي والتي نصت:
"لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقًا للقانون، وبناء على قرار صادر من جهة قضائية مختصة"
- الإخفاء القسري
أكّدت العديد من التشريعات القانونية الدولية والعراقية على حظر جريمة الاختفاء القسري، ومن أبرزها الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري (2006)، والتي صادق عليها العراق عام 2010، وبالتالي وجب عليها الالتزام بنصوصها.
تنصّ المادة الأولى من الاتفاقية على أنّه
"1. لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري.
2. لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري".
وعلى نحو مشابه، نصّ الدستور العراقي على حق كل فرد في الأمن والحرية، إذ تضمنت المادة (19) من الدستور العراقي حظر الحبس أو التوقيف في غير الأماكن المخصصة لذلك، واشترطت عرض أوراق الشخص المحتجز على قاضي في مدة أقصاها 24 ساعة من حين القبض عليه، ولم تجز تمديد المدة سوى مرة واحدة.
- تعويض المتضررين
يعد تعويض المتضررين من ذوي القتلى والمصابين وسائر من تعرّض لاعتداء أمني خلال مشاركته في نشاط مشروع وسلمي واجبًا دستوريًا على السلطات العراقية ينبغي تنفيذه دون إبطاء وبشكل شامل، وذلك بموجب نصوص قانون تعويض المتضررين جراء العمليات الحربية والأخطاء العسكرية والعمليات الإرهابية رقم 20 لعام 2019، إذ نصّت المادة (2) منه على:
"يشمل التعويض المنصوص عليه في هذا القانون الأضرار المتمثلة في:
أولًا: الاستشهاد والفقدان جراء العمليات المذكورة في هذا القانون.
ثانياً: العجز الكلي أو الجزئي بناء على تقرير لجنة طبية مختصة.
ثالثًا: الإصابات والحالات الأخرى التي تتطلب علاجًا مؤقتًا بناء على تقرير اللجنة الطبية المختصة في هذا المجال".
ويقع على عاتق الدولة أيضًا تعويض المتضررين من التوقيف والاحتجاز عن الأذى الذي لحق بهم، إذ نصت المادة (9) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ما يلي:
-"لكل شخص حرم من حريته بالتوقيف أو الاعتقال حق الرجوع إلى محكمة لكي تفصل هذه المحكمة دون إبطاء في قانونية اعتقاله، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاعتقال غير قانوني.
-لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض".
في ضوء الظروف التي أدّت إلى فشل لجان التحقيق في إنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة ومنع إفلاتهم من العقاب، والنفوذ الكبير للتيارات التي يُتهم أفرادها بالمشاركة في قتل المتظاهرين، يوصي المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بالآتي:
- الأمم المتحدة
- تشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق تتولى التحقيق في جميع الجرائم التي ارتكبتها قوات الأمن والميليشيات المسلحة خلال احتجاجات أكتوبر/تشرين أول 2019.
- إنشاء قناة تواصل مباشرة وآمنة مع الضحايا على نحو يمكّنهم من تقديم الأدلة دون تحفظ أو خشية من تسرب المعلومات للجهات المتنفذة.
- وضع إطار زمني محدد لعملية المساءلة والمحاسبة، وضمان تقديم جميع الدعم والتسهيلات الممكنة لإنجاز المهمة.
- السلطات العراقية المخولة بإنفاذ القانون
- تبنّي استراتيجية فعّالة للتحقيق على نحو مستقل وجاد في جميع الانتهاكات ضد المتظاهرين خلال احتجاجات أكتوبر/ تشرين أول 2019، بما يضمن إخضاع جميع المتورطين في تلك الانتهاكات للمساءلة الجنائية، ومنع إفلاتهم من العقاب.
- بذل جميع الجهود الممكنة للكشف عن مصير المختفين قسرًا، والتصدّي لمحاولات التستر على المتورطين في جرائم الإخفاء القسري، وتوفير الحماية الكاملة لمن يملكون معلومات أو أدلة متعلقة بتلك الجرائم، والتعامل بسرية ومهنية مع المعلومات المقدمة.
- تذليل الصعوبات الإدارية والقانونية أمام الضحايا وتمكينهم من تقديم الشكاوى القضائية، وتسهيل حصولهم على التعويضات المقررة لهم بموجب القانون.
- القوى والأحزاب السياسية
- التوافق على ضرورة محاسبة المتورطين في الجرائم التي وقعت على المتظاهرين خلال احتجاجات أكتوبر/تشرين أول 2019، والامتناع عن رفض أو إعاقة عمل لجان التحقيق ذات العلاقة.
- رفع الغطاء السياسي والتنظيمي عن أي متهم بعمليات قتل وقمع المتظاهرين، وعدم استخدام النفوذ داخل المواقع الرسمية لحماية المتهمين أو منع محاسبتهم.
- التعاون مع الجهات المعنية في ملف المختفين قسريًا كأولوية قصوى، والامتناع عن أي إخفاء أي معلومات قد تكون قيّمة لكشف مصير الأشخاص الذين تعرّضوا للإخفاء القسري على خلفية نشاطهم في الاحتجاجات.