تباينت ردود الأفعال حول انتخاب السيد محمد شياع السوداني رئيسًا لوزراء العراق بتاريخ 27 تشرين أول/ أكتوبر الماضي بعد جمود سياسي تجاوز عامًا كاملًا، وخلافات واحتجاجات حزبية وصلت في بعض الأحيان إلى الاقتتال المسلّح. تعهّد رئيس الوزراء الجديد بمعالجة ملفات عدة، لكنّ اللافت أنّه لم يول اهتمامًا كافيًا لقضايا حقوق الإنسان الملحة، والتي ينتظر ضحاياها العدالة منذ سنوات طويلة.
بعيدًا عن الصراعات السياسية، ما يزال العراق يعاني من تدهور حاد في حالة حقوق الإنسان، مع غياب شبه كامل لاستراتيجية واضحة لتعزيز حقوق الإنسان في البلاد، وإنصاف ضحايا الانتهاكات والأحداث التي شهدتها البلاد على مدار الأعوام الماضية.
كان من المنتظر أن يبدأ رئيس الوزراء الجديد ولايته بتعهد واضح بإيلاء أهمية خاصة لمعالجة قضايا ما يزال يعاني منها مئات آلاف العراقيين، ويتمثل أبرزها في إعادة النازحين إلى مناطقهم وتعويضهم، ومحاسبة المتورطين في جرائم قتل وتعذيب المتظاهرين، ولا سيما خلال احتجاجات تشرين أول/ أكتوبر 2019، بالإضافة إلى جرائم التعذيب في السجون.
لا يمكن للحكومة العراقية الجديدة أن تثبت نواياها الإيجابية في ملف حقوق الإنسان، دون العمل بشكل حقيقي على معالجة هذه الملفات وفق مقتضيات العدالة
لا يمكن للحكومة العراقية الجديدة أن تثبت نواياها الإيجابية في ملف حقوق الإنسان، دون العمل بشكل حقيقي على معالجة هذه الملفات وفق مقتضيات العدالة.
ملف النازحين
ما يزال أكثر من مليون و200 ألف عراقي في عداد النازحين منذ 8 أعوام إثر العمليات العسكرية ضد تنظيم "داعش". يعيش معظم النازحين في مخيمات عشوائية تفتقد لأبسط مقومات الحياة، ويعيش قليل منهم في مخيمات رسمية يتضاءل عددها بشكل مضطرد، فبعد أن كان عددها 120 مخيمًا عام 2017، أصبح اليوم 12 مخيمًا 10 منها في إقليم كردستان. ومع أن المخيمات الرسمية تفتقر إلى الدعم الإنساني اللازم، ويعاني القاطنون فيها من تهالك الخيام التي لا تقيهم برد الشتاء أو حر الصيف، إلا أنها تعد أقل سوءا من مخيمات النزوح العشوائي.
وأمام هذه المعاناة المستمرة، لم تتخذ الحكومات المتتالية أي خطوة إيجابية في ملف النازحين، بل ساهمت في مضاعفة معاناتهم عبر إغلاق المخيمات الرسمية وتقليل الخدمات للمخيمات القائمة، وتحججت بعدم استقرار الوضع الأمني لعودة آلاف النازحين، وتجاهلت اتخاذ قرار حاسم بمعالجة القضية على نحو جذري، من خلال إعادة تأهيل بيوت النازحين وإعادتهم إلى مناطقهم الأصلية حتى يعودوا إلى حياتهم الطبيعية.
تركت الحكومات المتعاقبة هذا الملف دون حل، لكنّ هذا التجاهل السلبي لا يجب أن يمتد إلى الحكومة الجديدة، فهي ملزمة بتوفير الأمن والرفاهية والاستقرار لجميع العراقيين على حد سواء، وتحقيق هذا الهدف يبدأ بإعلان خطة عمل حقيقية ضمن إطار زمني محدد لإعادة تأهيل مناطق النازحين الأصلية وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم، والكف عن التذرع بالوضع الأمني لإعادتهم إلى منازلهم بشكل طوعي.
محاسبة المتورطين في الجرائم المتركبة بحق المتظاهرين
لا يقل ملف محاسبة المتورطين في الجرائم المرتكبة بحق المتظاهرين السلميين أهمية عن ملف النازحين، إذ قتلت القوات الأمنية والميليشيات المسلحة نحو 730 عراقيًا، وجرحت أكثر من 25 ألفًا آخرين، وأخفت قسرًا عشرات المتظاهرين السلميين خلال ما يعرف باحتجاجات أكتوبر/ تشرين أول 2019، والتي استمرت لنحو ستة أشهر.
وعلى الرغم من مضي 3 سنوات على ارتكاب تلك الجرائم وتشكيل 4 لجان تحقيقية حكومية وبرلمانية، إلا أنّ السلطات العراقية فشلت في محاسبة أي من الجناة جنائيًا. لم تسلك الحكومات المتعاقبة واللجان المشكلة مسلكًا جدياً من أجل محاسبة المتورطين، فضمت بعض لجان التحقيق محسوبين على ميليشيات متهمة في قتل المتظاهرين، بينما افتقرت لجان أخرى للصفة القانونية الفاعلة، ولم تعلن نتائج تحقيقاتها حتى اليوم.
وفي ظل الفشل السابق في هذا الملف، تبرز أمام رئيس الوزراء الجديد فرصة حقيقية لإثبات جدية حكومته في إرساء مبادئ العدالة وسيادة القانون من خلال البدء فورًا ودون تأخير في محاسبة المتورطين في الانتهاكات ضد المتظاهرين جنائيًا، والكشف عن مصير المختفين قسريًا.
وبما أنّ الأسباب التي أدّت إلى فشل عمل لجان التحقيق السابقة معلومة، فسيكون من غير المنطقي أن يعيد "السوداني" سلوك نفس مسار من سبقوه، وبذلك فإنّ أول خطوة في إثبات نواياه الإيجابية في هذا الملف تجنّب الأخطاء التي وقعت بها لجان التحقيق السابقة من غياب الحياد، وتشكيل لجان غير قضائية، وغيرها من الأسباب. ومن منطلق الحرص على استقلالية وشفافية التحقيق، يُمكن أن يُشرك رئيس الوزراء الجديد الجهات الأممية ذات العلاقة في عملية التحقيق لضمان أن تكون النتائج مستقلة ومحايدة وبعيدة عن تأثير النفوذ الداخلي للأحزاب والتيارات السياسية.
التعذيب في السجون
بالإضافة إلى القضايا المهمة سالفة الذكر، يعد التعذيب في السجون العراقية الرسمية سلوكًا ممنهجًا لانتزاع الاعترافات قسرًا من المعتقلين أو الانتقام منهم ومضاعفة معاناتهم. نتج عن هذه السياسة مقتل العشرات من المعتقلين، بعضهم اعتقل عن طريق الخطأ بسبب تشابه في الأسماء بينهم وبين غيرهم من المتهمين.
وعلى الرغم من أنّ المكتب الإعلامي لـ"السوداني" خصص بتاريخ 11 نوفمبر/ تشرين ثانٍ عنوان بريد إلكتروني لاستقبال شكاوى من تعرضوا للتعذيب أو انتزاع اعترافات بالإكراه، إلا أنه يُخشى أنه يكون هذا الإجراء مجرد خطوة شكلية استباقًا لزيارة مرتقبة للجان من الأمم المتحدة لمتابعة قضية التعذيب في السجون وقضية الإحفاء القسري، وما يدعم هذه المخاوف أنّ "السوداني" نفسه لم يستجب لدعاوى حقوقية بمعالجة تلك القضايا عندما كان وزيرًا للعدل في وقت سابق.
"السوداني" رئيس الوزراء الآن، ويمتلك بموجب الدستور صلاحيات واسعة تخوّله اتخاذ إجراءات حقيقية للإفراج عن المعتقلين بالتهم الكيدية، ووقف جميع أشكال التعذيب والمعاملة السيئة داخل السجون، وتعويض أهالي الضحايا الذي قضوا أثناء التعذيب ومحاسبة مرتكبي تلك الفظائع، وتقديم الدعم النفسي والمادي لضحايا التعذيب.
لا تمثّل القضايا التي ذُكرت جميع الأزمات الحقوقية في العراق، بل أكثرها إلحاحًا وأهمية وتأثيرًا في حياة عدد كبير من العراقيين الذين ينتظرون تحركًا فاعلًا ومباشرًا من الحكومة الجديدة لإنهاء معاناتهم. هذه الحكومة يجب أن تثبت صدق نواياها بالمبادرة في معالجة تلك الملفات، بعيدًا عن الحسابات السياسية، ومساومة المواطنين على حقوقهم الأساسية.
إنّ مسارعة " السوداني" وحكومته في اتخاذ إجراءات مؤثرة تجاه القضايا سالفة الذكر، سيساهم في طي صفحة الماضي القاتمة، وبدء عهد جديد يكون عنوانه الحقيقي احترام حياة المواطن العراقي وكرامته، وبخلاف ذلك فإنّ الأزمات ستتفاقم أكثر، وستشهد حالة حقوق الإنسان في العراق تراجعًا أكبر، فمعالجة هذه الملفات الملحة ليس رفاهية بل ضرورة كبرى لاستعادة قيم العدالة وسيادة القانون.