من الطبيعي أن تساور المدافعين عن حقوق الإنسان شكوك حول مدى فاعلية عملهم ومعتقداتهم الأساسية مقارنة بالنجاحات القليلة التي يحققونها في مقابل ما يشهدونه من حالة عامة وممنهجة من الظلم وانعدام المساواة. مع ذلك، فإنّ تاريخ حقوق الإنسان والحركات الاجتماعية السابقة والحالية اتسم بالصلابة وطول النفس.

النضال من أجل حقوق الإنسان لن يتوقف أبدًا عن المضي قدمًا في سبيل تحقيق العدالة للمضطهدين، هذا النضال الخالد كان يُذكر في البداية في هوامش كتب التاريخ، لكنّه أصبح اليوم عنوانًا عالميًا للمطالبة بالحقوق والحريات الأساسية لجميع البشر حيثما وجدوا.

يمكن القول إنّ حركة حقوق الإنسان المعاصرة بدأت في الظهور منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، في مدة ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. بالنسبة للبشرية، فقد كانت تلك المرحلة مظلمة وبائسة، وتلطّخت بالكثير من الدماء والأفعال الشنيعة مثل القنابل الذرية والإبادة الجماعية، ولكنّها قادت في ذات الوقت إلى ازدهار خطاب حقوق الإنسان من خلال اعتماد ميثاق الأمم المتحدة في صيف عام 1945، وإنشاء لجنة حقوق الإنسان في العام الذي تلاه، لترجمة النوايا الحسنة في مرحلة ما بعد الحرب إلى معاهدات مُلزِمة قانونًا.

   يمكن النظر إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مجازًا على أنه مسار حقوق الإنسان نفسه: بطيء ولكنه ثابت، متقاطع، محوره الأشخاص ومليء بالأمل   

في الواقع، كانت المهمة الأولى للجنة حقوق الإنسان صياغة إعلان المبادئ الذي أصبح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948. وعلى الرغم من أن معظم أفريقيا وجزءًا كبيرًا من آسيا بالإضافة إلى أجزاء من الأمريكيتين كانوا ما يزالون تحت الحكم الاستعماري في ذلك الوقت –وهو أكبر مثال لانعدام المساواة- حصل الإعلان العالمي على تصويت 14 دولة غربية و19 دولة لاتينية و15 دولة أفريقية وآسيوية.

غالبًا ما يُوصف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنّه غير كافٍ لأنّه ليس معاهدة ملزمة قانونًا، لكنّه كان وما يزال وثيقة مهمة وخالدة؛ فهو الاتفاق الدولي الأول الذي تبنته البشرية جمعاء بشأن القيم الأخلاقية، ومثّل فيما بعد مصدرًا لا غنى عنه في تطوير ما لحقه من اتفاقيات وصكوك دولية ملزمة قانونًا، وشكّل مصدر إلهام لتطوير وتوسيع مجموعة القوانين الدولية لحقوق الإنسان.

يمكن النظر إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مجازًا على أنه مسار حقوق الإنسان نفسه: بطيء ولكنه ثابت، متقاطع، محوره الأشخاص ومليء بالأمل.

لقد قطعنا شوطًا طويلًا منذ أوائل الأربعينيات عندما كانت حتى الإبادة الجماعية غير محظورة بموجب القانون، لكن الحقوق الأساسية ما تزال تُنتهك على نطاق ينذر بالخطر في جميع أنحاء العالم. كما أنّ ازدواجية المعايير –جزء من إرث الحكم الاستعماري- ما تزال تؤثر على الساحة الدولية، إذ يُنظر إلى بعض الدول على أنها دول إرهابية مارقة على نحو يقوّض شرعيتها، في حين يتم تجاهل أفعال دول أخرى -الغربية بشكل أساسي- تنتهك حقوق الإنسان بنفس النظرة.

وفي الوقت الذي توجد فيه مجموعة واسعة ومهمة من القوانين الدولية لحقوق الإنسان، يوجد أيضًا ضعف وعدم مساواة في الإجراءات التنفيذية الدولية، بدءًا من حق النقض (الڤيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو اقتصار العضوية الدائمة لمجلس الأمن (إحدى أقوى الهيئات الدولية) على خمس دول ثابتة.

في نهاية المطاف، أصبح تطبيق الالتزامات الدولية لحقوق الإنسان متروكًا بالكامل تقريبًا لدول بمفردها وما يزال كذلك، فوجود معاهدات ملزمة قانونًا وتصديق الدول عليها لا يعني تلقائيًا أنّ هذه الدول ستحترم هذه المعاهدات وتحميها وتنفذها. ومن هنا تبرز الأهمية الكبيرة للدفاع عن حقوق الإنسان لتطوير مجتمع مدني يقظ وواعٍ ومتحد.

وفي هذا الإطار، يُنظر غالبًا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنّه أداة نظرية، أو وثيقة لا يفهمها حتى الأشخاص الذين صُممت لحمايتهم. ولكن في الحقيقة، لن تظهر النتائج العملية لهذا الإعلان إلا إذا أُعْمِلَت نصوصه بشكل عادل وفي جميع الظروف.

لن تستطيع الدول والمؤسسات والمحاكم والهيئات القضائية الدولية والهيئات ذات "النهج التنازلي" في الرصد، أن تحقق كمالية حقوق الإنسان وحدها، بل يتم ذلك من خلال آليات متعددة ومتداخلة ومنسقة تعمل على مستويات دولية ووطنية وتُشرك المجتمع المدني. ولا تشمل الحماية الفعالة لحقوق الإنسان آليات الشكاوى والتعويضات بأثر رجعي فحسب، بل تشمل أيضًا التطلعات لمنع الانتهاكات وتعزيز احترام حقوق الإنسان. وفي الحقيقة، تعزيز ثقافة حقوق الإنسان لتتبع "النهج التصاعدي" قد يدفع نحو اعتماد وتنفيذ المعايير القانونية من قبل الحكومات التي تتبع "النهج التنازلي".

عيون الأشخاص وآذانهم هم أول وأهم شهود على الانتهاكات التي يتعرضون لها هم أو غيرهم، وباستطاعتهم استخدام أصواتهم كأدوات فاعلة، خاصة حين يتمتعون بالحماية على عكس غيرهم من الأشخاص.

يلعب الأفراد –بكونهم أعضاءً في منظمات غير حكومية أو مشاركين في حركات اجتماعية أو جمعيات أو ببساطة مواطنين-دورًا مباشرًا في حماية وتعزيز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذ يمكنهم تعزيز المساءلة في مجال حقوق الإنسان من خلال لفت الانتباه إلى أوجه القصور في تنفيذ حقوق معينة، وإعلاء صوت من تُركوا على الهوامش، وتسمية وفضح الحكومات المتورطة في ارتكاب الانتهاكات.

ومن أبرز الخصائص التي تتميز بها عملية الدفاع عن حقوق الإنسان أنّها لا تنحصر في ردود الأفعال فقط، بل تهدف في كثير من الأحيان إلى خلق إنذارات وتحذيرات مبكرة بالأزمات أو الانتهاكات المحتملة لتجنبها واتقائها، حيث ينشط المدافعون عن حقوق الإنسان في إثارة القضايا المقلقة للحيلولة دون تطورها، ويكون ذلك من خلال تعزيز وعي الجمهور وتوجيه الضغط نحو الحكومات والسلطات ذات العلاقة. علاوة على ذلك، يحرص نشطاء حقوق الإنسان على استنهاض همم أفراد المجتمع وتحفيز مشاعر التعاطف والغضب لديهم وصولًا إلى إدماجهم في النضال من أجل حقوق الإنسان، ليساعدوا فيما بعد في حماية المدافعين القدامى عن حقوق الإنسان، ودعم الأشخاص والفئات التي انتُهكت حقوقها أو تعرضت للخطر. هؤلاء يساهمون بشكل أساسي في تعبيد الطريق نحو العدالة الاجتماعية.

على سبيل المثال، خرجتُ قبل أيام في شوارع روما مع نشطاء من أكثر من 40 جمعية دولية لحقوق الإنسان ومنظمة مجتمع مدني للاحتجاج على تجديد مذكرة التفاهم بين إيطاليا وليبيا؛ الاتفاقية التي توفر الدعم الاقتصادي لما يسمى بخفر السواحل الليبي، وتسمح بإنفاق الأموال العامة على عمليات الصد والاحتجاز التعسفي والعنف والاستغلال وعدة أشكال أخرى من المعاملة اللاإنسانية التي يواجهها آلاف المهاجرين وطالبي اللجوء من النساء والرجال والأطفال المحتجزين في مراكز الاحتجاز الليبية. ليست المظاهرات الحاشدة أو الهتافات أو التقارير المفصلة أو حملات المناصرة الناجحة هي التي تقنع الحكومات دائمًا بتغيير أفعالها ووقف انتهاكاتها، بل من الضروري أيضًا أن نتحد معًا ونظهر رفضنا القوي لسياسة الإفلات من العقاب. ما يسهل على الجناة الاستمرار في ارتكاب الانتهاكات هو عدم شعورهم بحتمية المساءلة والمحاسبة، وذلك ينبع في كثير من الأحيان من غياب إرادة سياسية لمعالجة الأسباب الجذرية التي تسمح بتكرار أنماط العنف.

وبالإضافة إلى التسبب في معاناة هائلة للضحايا من خلال إنكار ورفض جبر الضرر الجسدي والاجتماعي والنفسي الذي لحق بهم، يترك الإفلات من العقاب عواقب وخيمة وخبيثة على جميع مستويات المجتمع، لأنّه يثني الناس عن التحدث، ويقيّد المساحة المدنية.

من المهم بالنسبة لنا كمواطنين وأشخاص وأعضاء مجتمع مدني أن ننخرط في الدفاع عن حقوق الإنسان كشكل من أشكال المقاومة الشعبية لإظهار اهتمامنا بحقوقنا وتقديرنا لمساحتنا المدنية وللتأكيد على أننا أقوياء وسنواصل المسير. الدفاع عن حقوق الإنسان من بين الحقوق والحريات الأساسية المتأصلة في جميع البشر والمكرّسة في القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهو في الواقع ما يحمي قدرتنا على مقاومة وإدانة من هم في السلطة ولا يكترثون بإرساء العدالة.