بدا المشهد غير واقعي، لكنه كان يتّسق تمامًا مع أسلوب أكثر الحكومات اليمينية تطرفًا في تاريخ إسرائيل.
أمام طبقٍ كبيرٍ من الطعام وقبل أن يحشو فمه بالخبز الطازج، جلس وزير الأمن القومي "إيتمار بن غفير" مبتهجًا على مكتبه وتحدث بسخرية وفخر عن منعه للسجناء الفلسطينيين من الخبيز، ثم ابتسم وقال: "هذه مجرد البداية".
لم تُثِر الحادثة أي ردود فعلٍ دولية أو انتقادات أو ضغوط، ولذلك بدأ "بن غفير" بعدها بفترة وجيزة في تنفيذ المزيد من الإجراءات القاسية والمهينة وغير الإنسانية ضد السجناء الفلسطينيين، مما دفع قرابة 1000 منهم في نهاية أغسطس/ آب إلى بدء إضراب مفتوح عن الطعام احتجاجًا على الظروف القاسية.
دفع ذلك "بن غفير" إلى الضغط عليهم ومهاجمتهم على نحو أكبر، إذ قرّر تعسفيًا الأسبوع الماضي تقليص عدد الزيارات العائلية إلى مرة واحدة كل شهرين، ما دفع السجناء الفلسطينيين إلى إعلان إضراب جماعي مفتوح عن الطعام ابتداءً من 14 سبتمبر/ أيلول الجاري.
مسجونون ظلمًا
هذان الإضرابان عن الطعام يعدان الأكبر منذ سنوات بالنسبة للسجناء الفلسطينيين الذين يقبع الكثير منهم في السجون دون محاكمة عادلة.
وفي ظل نظام التمييز العنصري الإسرائيلي، يُحاكم الفلسطينيون في محاكم عسكرية تفتقر إلى شروط وضمانات العدالة (محاكم كنغرية) بمعدل إدانة يبلغ 99.74%، في حين يبلغ معدل الإدانة في الهجمات الإسرائيلية المُبلغ عنها على الفلسطينيين حوالي 1.8%.
القسوة هي بالتحديد الهدف الوحيد من هذه الإجراءات العقابية العبثية وغير المبرّرة ضد السجناء الفلسطينيين
ربع السجناء الفلسطينيين يقبعون في السجون لأجلٍ غير مسمى دون أي محاكمة في ممارسة تُعرف باسم "الاعتقال الإداري"، وهي تُطبّق بشكل كبير على الفلسطينيين فقط.
يتلقّى الفلسطينيون أحكامًا أقسى بكثير من تلك التي يتلقاها الإسرائيليون اليهود لذات الجرائم، إذ يمكن أن يواجه المراهق أو الطفل الفلسطيني الذي يرمي الحجارة على المركبات العسكرية الإسرائيلية التي تقتحم قريته عقوبة السجن لمدة تصل إلى 20 عامًا، في حين أن المستوطنين الإسرائيليين الذين يرشقون الفلسطينيين بالحجارة لا يواجهون سوى عقوبة الخدمة المجتمعية في أحسن الأحوال.
وغالبًا ما تتعامل السلطات الإسرائيلية مع الأفعال الفلسطينية على أنها "جرائم أمنية" تحمل صفة الإرهاب وتستلزم ظروفًا أشد في السجن مقارنة بالجرائم الإسرائيلية المماثلة.
القسوة هي الهدف
في إطار حملته لجعل حياة السجناء الفلسطينيين مستحيلة، لم يضيّع وزير الأمن الإسرائيلي لحظةً واحدة منذ تولي منصبه للوفاء بهذا الوعد، سواء من خلال تقليص وقت الاستحمام إلى مدة تتراوح بين دقيقتين وأربع دقائق لكل سجين فلسطيني، أو بإصدار أوامر لمسؤولي السجون الإسرائيلية بوضع السجناء الفلسطينيين تعسفيًا في العزل الانفرادي، وإجراء المزيد من عمليات التفتيش العشوائية في زنازين النساء.
وفي الآونة الأخيرة، قرر الوزير اليميني المتطرف منع السجناء الفلسطينيين من تلقي رعاية الأسنان، وأمر بتحصيل حوالي 50 دولارًا في الساعة مقابل أي زيارة لطبيب الأسنان بغض النظر عن الوضع المالي للمريض أو مدى إلحاح حالته الطبية، فضلًا عن فرض حدود زمنية معينة لزيارات عيادة الأسنان التابعة للسجن.
كما منع الوزير الإفراج المبكر عن أكثر من 1000 فلسطيني على الرغم من توصية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بعكس ذلك لتقليل الاكتظاظ في السجون الإسرائيلية.
ويُقال إن "بن غفير" يخطّط لتقليل أنواع صابون الاستحمام المتوفرة للسجناء في "الكنتينا" (بقّالة السجن)، وتقييد وصولهم إلى التلفاز، وتقليص الوقت المسموح لهم بالخروج فيه لساحة السجن (الفورة)، فضلًا عن الحد من لحم الضأن.
القسوة هي بالتحديد الهدف الوحيد من هذه الإجراءات العقابية العبثية وغير المبرّرة ضد السجناء الفلسطينيين.
تُسبب هذه القرارات معاناة وتوترًا لا ضرورة لهما، وليس لها قيمة أمنية واضحة أو هدف مشروع سوى تعزيز شعبية الوزير المتطرف وبناء سمعة "بن غفير" كسياسي صارم يقمع الفلسطينيين ويُريهم إسرائيل بقوتها الكاملة، إلا أنّ زعماء المعارضة الإسرائيلية يرون حقيقة هذه الممارسات الجدلية الرخيصة، حيث قال رئيس الوزراء السابق "يائير لابيد" – المُدان سابقًا بالتحريض العنصري وارتكاب جرائم إرهابية – في وصف "بن غفير" إنه "مهرج تيك توك" و"وزير البيتا" (نسبةً إلى خبز البيتا العربي الليّن الذي يُصنع من دقيق القمح ويشيع تناوله في منطقة الشرق الأوسط).
الفلسطينيون يموتون في السجون
خلال فترة ولاية "بن غفير" القصيرة في منصبه، توفي الفلسطيني المُضرب عن الطعام "خضر عدنان" في زنزانته بعد رفض نقله إلى مستشفى مدني على الرغم من التدهور الحاد في حالته الصحية.
كما يواجه السجين الفلسطيني "وليد دقّة" خطر الموت الوشيك بسبب معاناته من مرض السرطان في مراحله الأخيرة، وقد رُفض طلبه بالإفراج المبكر ليكون مع ابنته الصغيرة، على الرغم من أنه قضى بالفعل أكثر من 37 عامًا في السجن.
الأمر التالي على قائمة الوعود الانتخابية لوزير الأمن القومي هو تشريع عقوبة الإعدام ضد الفلسطينيين حصرًا، ويأتي ذلك بعد إقرار البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) قانونًا يسمح بترحيل المواطنين الفلسطينيين
في إسرائيل والفلسطينيين المقيمين القدس الشرقية المصنفين على إنهم "إرهابيون".
نظام طبقي
مما يجب إدراكه أنّ سلسلة الإجراءات العقابية والقاسية الأخيرة التي اتخذتها إسرائيل ضد السجناء تنطبق فقط على الفلسطينيين وليس على اليهود الإسرائيليين، وذلك لأنه في نظر الائتلاف الحاكم، لا يمكن سوى للعربي أن يكون "إرهابيًا"، بينما لا يمكن أن يُوصف أي يهودي إسرائيلي بذلك بغض النظر عن الأعمال الفظيعة التي قد يرتكبها.
يضم الائتلاف أعضاء في الكنيست مثل "تسفي سوكوت" وهو مستوطن متطرف يُشتبه في إحراقه لمسجد، ونفاه الجيش الإسرائيلي من الضفة الغربية في عام 2012.
إنّ الطبيعة التمييزية لهذه التدابير تُسلّط الضوء على عدم شرعيتها وعدم أخلاقيتها، إذ إنّ انعدام المساواة أمام القانون –فيما يتعلق بالحق في المحاكمة العادلة والتمثيل القانوني والوصول إلى العدالة والمعاملة الإنسانية– ساهمت في الوصول إلى الاستنتاجات التي خلصت إليها منظمات حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية والفلسطينية الكبرى بأن إسرائيل تعمل بسياسة الفصل العنصري، التي تعد جريمةً ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي.
السجن كأداة قمع
في أبريل/ نيسان عام 2022، كان هناك حوالي 4450 "سجين أمني" فلسطيني في إسرائيل، بينهم 160 طفلًا و32 امرأة و530 معتقلاً إداريًا مسجونين دون تهمة أو محاكمة.
ترفض إسرائيل الاعتراف بالسجناء الفلسطينيين على أنهم أسرى حرب وتعاملهم بدلاً من ذلك كمجرمين أو إرهابيين ذوي دوافع سياسية وتحرمهم من حقوقهم بشكلٍ ممنهج، بما في ذلك الحق في تلقي الزيارات العائلية.
توظّف إسرائيل سياسة السجن بشكل روتيني كأداة للقمع والترهيب والمضايقة، فضلًا عن تعطيل الحياة السياسية الفلسطينية، بما يشمل اعتقال أعضاء في البرلمان الفلسطيني مثل النائب "خالدة جرار" التي اعتقلت إداريًا دون محاكمة أو تهمة وعدّتها منظمة العفو الدولية سجينة رأي.
إنّ ممارسات إسرائيل القاسية المتمثلة في سجن واعتقال الفلسطينيين ظلمًا وإخضاعهم لظروف سجن قاسية لن تؤدي سوى لتأجيج الصراع وزيادة أسباب عدم الاستقرار.
باعتبارها قوة احتلال، تتحمل إسرائيل المسؤولية الكاملة عن السكان الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعليها مجموعة من الالتزامات تجاه السجناء الفلسطينيين، بما يشمل احترام حقهم في الحياة والصحة والكرامة الإنسانية.
يجب على إسرائيل ضمان حق السجناء الفلسطينيين في المحاكمة العادلة والزيارات العائلية والرعاية الصحية والمعاملة الإنسانية، فضلًا عن وضع حد لجميع أشكال العنف والتمييز ضدهم، خاصةً سياسة الاعتقال الإداري وسياسة العزل الانفرادي المطوّل، خاصةً ضد القُصّر، بما ينتهك المعايير الدولية ذات العلاقة.