بينما كان "محمد الغامدي" يقضي ليلته في السجن يفكّر في كابوس إعدامه الذي قد يتحول إلى حقيقة في أي لحظة، كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يبيع الوهم للعالم من خلال مقابلة رُتّبت بعناية عبر شبكة "فوكس نيوز" الأمريكية.

خلال اللقاء الذي امتد لأكثر من ثلاثين دقيقة، ظهر الصحافي "بريت باير" -الذي أجرى الحوار- بمظهر المعجب بشخصية ونهج ولي العهد، ووجّه اللقاء لاستعراض حكمة وإنجازات الأمير الشاب، والترويج للمشاريع الكبيرة التي يعمل عليها، ولم يستغل هذه الفرصة النادرة لمواجهة ولي العهد بالأسئلة الصعبة التي تدور في أذهان عدد كبير من ضحايا سياساته القمعية، ومن خلفهم منظمات حقوق الإنسان التي وثقت الانتهاكات المروّعة لحقوق الإنسان في السعودية.

تناول الحوار مواضيع مختلفة منها الرؤية التي ينفّذها ولي العهد لتطوير بلاده، والسياسات النفطية، والعلاقات مع الدول الأخرى وخاصة إيران، والحرب في أوكرانيا، وسؤالين ناعمين حول قضية اغتيال الصحافي "جمال خاشقجي"، والحكم بالإعدام على المدرّس المتقاعد "محمد الغامدي" بسبب نشاطه على موقع "إكس" (تويتر سابقًا).

   استطاع ولي العهد بسرعة ويُسر تنفيذ جميع هذه الأفعال، لكنّه لسوء الحظ لا يستطيع التدخل لوقف إعدام رجل بريء. هذا ما يريد منّا ولي العهد تصديقه   

خلال إجابته على السؤال حول الحكم بإعدام "الغامدي"، بدا ولي العهد منفصلًا عن الواقع رغم أنّه كان يتكلم بثقة، إذ تحدّث كزعيم في دولة ديمقراطية تعمل بمبدأ الفصل بين السلطات، ويأخذ فيها القانون مجراه، بحيث لا تتدخل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية، ملخصًا حديثه في هذه النقطة بالقول: "لا أستطيع أن أخبر القاضي افعل ذلك ]إلغاء الحكم على الغامدي[ وتجاهل القوانين، لأن ذلك سيكون ضد سيادة القانون".

زعم ولي العهد استشعاره الخجل من الحكم على "الغامدي"، وأرجع ذلك إلى تقدير القاضي وإلى القوانين المعمول بها في السعودية، وأبدى أمله في تغيير الحكم في مراحل التقاضي المتبقية، ليُكمل بذلك السيناريو الخيالي الذي نسجه للقضية.

خلال بضع سنوات فقط، تمكّن ولي العهد من إحداث تغيير كبير في هوية بلاده المحافظة، واستقطب مشاهير العالم في مختلف المجالات لتبدو السعودية كدولة عصرية أكثر انفتاحًا على الفن والثقافة ومظاهر الحداثة، متحلّلًا من المحاذير والضوابط الدينية والمجتمعية التي كانت تحكم البلاد طوال السنوات الماضية.

خلال ذات المدة، احتجز ولي العهد عددًا كبيرًا من الأمراء وأفراد العائلة الحاكمة واستولى على مئات ملايين الدولارات منهم، وزجّ أيضًا بمئات الأشخاص في السجون لمجرد تعبيرهم عن آرائهم بسلمية تامة.

استطاع ولي العهد بسرعة ويُسر تنفيذ جميع هذه الأفعال التي تتطلب إجراءات قانونية وتشريعية مطوّلة قد تستغرق سنوات طويلة، لكنّه لسوء الحظ، لا يستطيع التدخل لوقف إعدام رجل بريء. هذا ما يريد منّا ولي العهد تصديقه.

محمد الغامدي (54 عامًا) مدرس سعودي متقاعد، حكمت عليه المحكمة الجزائية المتخصصة -التي تنظر عادة في قضايا الإرهاب- بالإعدام في تموز/ يوليو 2022، بسبب التغريد وإعادة التغريد من حسابين وهميين يمتلكهما على موقع "إكس"، الأول فيه متابعان والثاني فيه ثمانية متابعين، ولم يكن يحمل مضمون التغريدات سوى انتقادات مشروعة للفساد وانتهاكات حقوق الإنسان في المملكة.

قضية "محمد الغامدي" ليست سلوكًا معزولًا، ولكنّها ربما الحالة الأكثر تعبيرًا عن نهج شامل يتّبعه ولّي العهد محمد بن سلمان ضد من يحاول التعبير عن رأيه، وحتى ضد أولئك الذي لا يبدون التأييد العلني لسياساته الداخلية والخارجية. مئات من الأشخاص بينهم كتاب وصحافيون ورجال دين وأطباء ومدرسون وغيرهم احُتجزوا خلال السنوات الماضية، وحُكم على بعضهم بالسجن لسنوات طويلة لمجرد تعبيرهم عن آرائهم بسلمية.

في معظم تلك الحالات، كانت مراحل التقاضي التي تحدث عنها ولي العهد غير موجودة أصلًا أو شكلية في أفضل الأحوال، وواجه المحتجزون بدلًا من ذلك مراحل اضطهاد متعددة، بدءًا من الإخفاء القسري ومرورًا بالتحقيق القاسي والتعذيب، وليس انتهاء بالمحاكمات بالغة الجور.

قد تشكّل مقابلة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع "فوكس نيوز"، لا سيما الاستفسارات الخجولة عن انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة، صورة عن نظرة الدول الغربية، والولايات المتحدة على نحو خاص، لتلك الانتهاكات، والأولويات التي تحكم شكل العلاقات مع المملكة العربية السعودية.

الواقع يقول إنّ إنتاج النفط، وعلاقات السعودية مع إيران، وروسيا، والصين، وغيرها من القضايا، هي أكثر أهمية بالنسبة للدول الكبرى من وضع حقوق الإنسان في المملكة، وحتى لو صدرت قرارات إعدام جديدة بحق أشخاص أبرياء آخرين، فإنّه لا يوجد مؤشرات -على الأقل في المنظور القريب- على أنّ ذلك سيغير من تعامل تلك الدول ذات النفوذ العالمي والإقليمي الكبير مع السعودية؛ ربما سيثيرون تساؤلات خجولة لن يكون لها تأثير فعلي على شكل العلاقة مع المملكة.

يشكّل هذا الواقع الصعب ضغطًا كبيرًا على معتقلي الرأي في السعودية وحتى الأشخاص الطلقاء الذين يحملون آراء معارضة، إذ من جهة تواصل السلطات حملاتها المركّزة على حرية الرأي والتعبير، وتستمر في اضطهاد أصحاب الرأي والمدافعين عن حقوق الإنسان، ومن جهة أخرى لا يبدو أنّ تلك الانتهاكات تشكّل لها حرجًا على مستوى العلاقات الدولية، أو تُعيقها عن تنفيذ سياساتها الخارجية، وبالتالي ستكون مطمئنة لاستكمال وزيادة وتيرة تلك الانتهاكات.

قد يشعر معتقلو الرأي المحتجزون دون وجه حقٍ بالخذلان وتخلّي الدول التي لطالما حاضرت بالحريات والديمقراطية عنهم، وهذا تحديدًا ما يضع مسؤولية مضاعفة على المدافعين عن حقوق الإنسان، وكيانات وآليات وخبراء الأمم المتحدة المستقلين، إذ لا يجب أن يُترك هؤلاء الأبرياء وحدهم في عالم تحكمه المصالح، وينبغي أن يستمر الجميع في سلوك مختلف الطرق الشرعية والقانونية لكي ينعم هؤلاء بحرياتهم في بلدهم.

بقدر ما يصعّد منتهكو حقوق الإنسان من قمعهم، بقدر ما يجب على المنوطين بالدفاع عن حقوق الإنسان تصعيد وتكثيف حملاتهم لمناصرة الضحايا وفضح منتهكي حقوق الإنسان والضغط باتجاه محاسبتهم، والتذكير بقضاياهم دومًا في كل المحافل الممكنة.